إن المَنطق هو المِعيار أو المحك أو العقل السليم صِرفٌ المُجرد مِن أي مُحابةٍ أو تَحيُّز أو اعتبار،

الحاضر الغائب, أقدم العُلوم حتى إن لَم يَكُن أولها, مُبتدأٌ وإن تأخر, يُعد عِلم المنطق (logikḗ) نواة إرساء أي علمِ حتى مِن قبل اصطلاح مفاهيمه ومُسلماته, وعنه يَقول ابن حَزم: (إن هذا العِلم مستقر في نفس كُل ذي لبٍ, فالذهن الذكي واصل بِما مَكنه الله فيه مِن الفَهم إلى فوائد هذا العلم), فإذا قُلنا مثلاَ أن الأحماض هي المواد الكيميائية التي إذا تفاعلت مع الماء تنتج أيونات هيدروجين موجبة, فإننا نستنبط مِن ذلك أن بِما أن النيتريك (HNO3) حمضٌ إذن إذا تفاعل مع الماء فإنها سيُنتج أيونات هيدروجين موجب (+H), وإذا قُلنا مثلاً: أن المعدن (أ) يتمدد بالحرارة, والمعدن (ب) يتمدد بالحرارة, والمَعدن (ج) يتمدد بالحرارة إذن نقفز إلى نتيجة أن كُل المعادن تتمدد بالحرارة, ولكن هذه النتيجة لا تصل أبداً حد اليقين حتى يتم امتحان كُل المعادن, ومِن ثمَّ ننتقل مِن الاستقراء إلى الاستنباط أو بالأحرى الاستقراء التام.

ومِن هُنا يُعرف عِلم المَنطق بأنه العِلم الباحث في اليقين وكيفية الوصول إليه, كما يبحث في الخطأ وكيفية اجتنابه والابتعاد عنه, وبِكل تعريفاته الكثيرة والمُتشابِهة إلا أنها ترتكز على قاسمٍ مُشترك أن المنطق هو الاستدلال, ومِن نموذجي الاستنباط والاستقراء السابِق ذِكرهما, نستنتج أن المَنطق الهادف إلى تقرير الحقائق والوصول إلى اليقين يَلزمه الإتيان بأدلة وبراهين جلية مُبينة وإلا كان القول مُجرد رأيٍ أو حدسٍ أو تنجيم لا يُسلَّم بصدقِه أو بكذبه حتى يُقتَرن ببرهان واضح مُبين, سواء على صِحة القول أو كّذِبه, فإن المَنطق هو المِعيار أو المحك أو العقل السليم صِرفٌ المُجرد مِن أي مُحابةٍ أو تَحيُّز أو اعتبار، مِثلِ ما يَظهر جلياً في المُغالطات المنطقية (Logical Fallacies), مِثل: مُغالطة (الحجة الشخصية/ الشخصنة/ القدح الشخصي- ad hominem), ومُغالطة )الاحتكام إلى الجماهير- Appeal to the people), ومُغالطة (الانضمام إلى الجوقة- Bandwagon)، ومُغالطة (الاحتكام إلى السُلطة – Appeal to authority)، ومُغالطة (الاحتكام إلى الشفقة – Appeal to pity)، ومُغالطة (رجل القَش – Straw man)، ومُغالطة (الرِنجة الحمراء - red herring)، وغيرهن مِن المُغالطات.

ونرمي بِما قدمنا مُناقشة المُحاجة باعتبارها نموذج منطقي كاد أن يحوي كُل مبادئ المَنطق ومُغالطاته، وتُعرَّف المُحاجة بأنها قُدرة المُحاور على تمحيص وتفنيد ودحض حجج الطرف الآخر بتقديم أدلة وبراهين استدلالية صحيحة لإقناعه بها للوصول إلى اتفاق حول القضية التي وقع النقاش حولها. وهي بذلك تُخالف الجدل الذي يبدو فيه الشراسة في الدفاع عن الرأي ومحاولة كلا الطرفين إفحام بعضهم بعض, أو السفسطة التي يُجادل فيها الطرفان بالباطل دون تقديم أدلة أو براهين منطقية بل خداع الطرفين بعضهم بعض بمُغالطاتٍ شتى.

ونأتي هُنا بنموذج محاجة كامل الأركان، قصة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- مع الملك النمرود، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. تجبَّر الملك النمرود وعلا في الأرض, وفرض سُلطانه عليها ومَن عليها وادَّعى الألوهية، فبعث الله إبراهيم -عليه السلام- لدعوته إلى عبادة الله الواحد الأحد، فحاج إبراهيم في ذلك، ولما قال إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، أتى النمرود برجلين فقتل أحدهم وترك الآخر كدليل على قدرته على الإحياء والإماتة، على الرغم مِن أنه غير قادر على إحياء هذا الذي قُتل, إلا أنَّ إبراهيم- عليه السلام- انتقل إلى حُجة أوثق لا طائل للنمرود فيها, فقال إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ), فغُلت يداه وسقطت حجته.

تناولنا فيما سبق المحاجة باعتبارها نموذج أمثل لدراسة المنطق، فرُبما ينضوي تحتها مِقدار لا بأس به مِن قوانين ومبادئ ومسلمات المَنطق، فهيكل المُحاجة الذي يبدأ بتعريف القضية المُثار حولها وتقديم كلا الطرفين الأدلة والبراهين وتمحيصها وتفنيدها وإعلان الصالح والفاسد مِنها، وصولاً إلى نتيجة مُتفق عليها مِن كلا الطرفين، وعلى الأرجح تظهر المُحاجة بنموذجها المثالي في البحث العلمي الذي يذهب فيه الباحثون إلى الوصول إلى نتيجة مُشاهدة محسوسة بعيدة عن الأهواء والميول الشخصية، بخلاف القضايا الفِكرية والسياسية والدينية الذي يظهر فيها الجدال والسفسطة والكثير مِن المُغالطات مِن جانب الباطل على الأكثر.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات محمد الصاوي

تدوينات ذات صلة