’’ في الخريف .. تسقطُ الأوراق ، لكن أوراقي سقطَت في الرّبيع .. ثمّ سقطَ بعدها كلّ شيء ، الأصدِقاء ، الأماكِن ، الأحلام .. وأنا ! ،،

خرُوج نِهائي

27 مَايُو 2019


حين غادرت .. للمرّة الأخيرة ، لم أكُن أحملُ الكثيرَ من الحقائبِ كعادتي ، ولكنّها كانت أثقل من كلّ المرّات .. كان بإمكاني تقبّل أي شيء ، أي شيءٍ باستثناءِ تذكرةٍ كتب فيها " خروج نِهائي " .


لم أبكِ ، كان الألمُ أشدُّ من أن أعربَ عنه ببضعِ قطراتٍ مالحة ، كان أكثرُ مرارةً وأشدُّ وطأة ! ورقة واحِدة .. ورقة تحملُ جملة " خروج نِهائي " ، كانت كفيلةً بأن تنهش صدري ، بأن تتجاوزّ لحمِي وعظمي ، وتقتلع قلبِي كمَا يُقتلع الشّجر المُعمر من جذُوره ، أتساءَل .. أيتألمُ الشّجرُ كما نتألم نحن ؟

- النّداء الأخير .. على الرّكاب التوجّه إلى البوابة ، دقائق وتُقلع الطّائرة ..


وقفتُ حينها متفرّجة ، كالمِصفاة ، وأنا أُشاهِد الأشخاص ، الأماكِن .. تتسرّبُ من خِلالي .. ولا تُبقِ لي سوى شوائب الذّكرى لتعلقَ بي ، ولم يمنعني من البُكاء سوى أنها علقت في جُدران قلبي ، كما تعلقُ الرّواسب الناتجة عن ملُوحة المياهِ في الصُّنبُور ، فتسدّه .. لتمنع نزُول الماءِ من خِلاله .. وتساءَلتُ حينها عن ما إن كان بإمكانِي الرّجُوع إلى الأماكِن القديمة ، واستِعادة ما تسرّب من خِلالي .. ولكِن كان كُل شيءٍ بالفعلِ قد تغيّر ! تمّ ترميمُ الشّقُوق في جُدرانِ منزلنا القديم ، لابُدّ أنه قد عجّ بسُكانٍ آخرين ؟ الصّوتُ المنبعث من المطبَخ لم يعُد لأمّي ، وضحِكات الأطفَال في الغُرفة المُجاوِرة لم تعُد لإخوَتي ! إن أعادُوا لنا الأماكِن .. فمن يُعيدُ لنا الحياة ؟


صعدتُ إلى الطّائرة ، وأنا أجرُّ خيبتي ، وآلامِي ، والذَكريات التِي أبت أن تتسرّب مع مَن صنعُوها .. اتخذتُ مقعدًا بعيدًا عن النّافذة ، بخِلافِ العادة .. لم أرغب في رؤيةِ المدينة من الأعلى ، في صورتها المصغّرة .. أردتُ أن تخلّد الصورة القديمة لها في ذاكرتي إلى الأبد ! لم أربِط حزام الأمان رغمَ إلحاحِ المُضيفة ، وجلستُ أحدّق في أوجهِ المُسافرين ، بعينَين جاحظتين تكادان تُغادرا جفنيّ ، كأنّ العينين المجرّدتين ، والمشهد المصوّر أمامي .. لم يكُونا كافيين لأصدّق أنّني بالفعل سأغادر .. بِلا رجعة !


تمنّيت لو تحدُث معجزة ؟ لو أعودُ إلى الدّيار التي ظننتُها دِياري ؟ أو أستيقظَ فجأة على سريرِي وأرجُو أن لا يتكرّر هذا الكابوس مجددًا ؟ .. لَو تتحطّم الطائرة فأموت قبل أن أغادر ! .. لكنّها أقلعَت ! أقلعَت وأقلعَ جسدي معهَا .. مهلًا أيتها الطّائرة ، تريّثي ! .. لقد نسيتُ روحي ! .. كانَ جسَدي طائِرًا في هذه السّماء الرّحبة ، بينَ تلكَ الغيُوم ، لكن رُوحي كانت مُلقاةً في قُرصِ الشّمس هُناك .. تحترق !

في الخريف .. تسقطُ الأوراق ، لكن أوراقي سقطَت في الرّبيع .. ثمّ سقطَ بعدها كلّ شيء ، الأصدِقاء ، الأماكِن ، الأحلام .. وأنا !

أسندتُ رأسِي إلى كتفِ أمّي التِي أغدقَت عليّ بعِباراتٍ مطمئنَة ، أعلمُ أنّها لا تعنيها حقًا فقد كانت هي الأخرى تتألّم ، أيُعقل يا أمّي ؟ أيُعقلُ أن تلدنا أوطانُنا لتتخلّى عنّا ؟ أم أنا التِي شعرتُ بالانتِماء ، لأرضٍ ظننتُها دياري .. وما كانت يومًا دِياري !


-رانْدا






رانْدا

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

لم اجد داخل عقلي بعض من الكلمات لا عبر بها عن جمال حسك الأدبي و فصاحتك في انتقاء الكلمات لكن يكفي أن اخبرك إن المشاعر الحقيقية التي قصدتيها في عباراتك داخل المقال اخترقت قلبي مثل السيل الجارف أو السهم الحاد وشعرت بكل لحظة حزن وحرمان وكسرة قد مرت عليك في تلك اللحظات . ولاذلت ابحث عن باقي القصه هل هي بروااايه بل يجب أن تكون كذالك . يجب أن تكون هنالك نهاية سعدية للقصة . كما اعتدنا في الروايات والافلام القديمة . لماذا تفتحي ابواب الحزن والفراق والغربه المغلقه التي في قلوبنا ثم ترحلي دووون استأذن . 🥺🙏

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة