عن العدالة الاجتماعية عندما تكون نظام تشغيل المجتمعات
منذ بدء نشوء الحضارات لطالما كانت منظومة الأخلاق والقيم التي تجمع أفرادها هي المُكوّن الرئيس لنسيج المجتمعات المتحضرة، وعند الحديث عن منظومة القيم فإننا نقصد النظام الأخلاقي العام للأشخاص المنتمين لهذه المجتمعات ومدى تحلّيهم بالقيم والتزامهم المعنويّ بها.
وفي البحث والقراءة عبر التاريخ نجد أنّ المجتمعات القائمة على مبادئ القيم والأخلاق كانت تبدي تماسكًا أكثر، وتعكس نهضةً وتوجهًا إيجابيًا للارتقاء في المؤشرات الاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والصحية؛ ولعلَّ هذا الناتج يُعزى لسموّ القيم التي تم تأسيس هذه المجتمعات عليها.
وعند الحديث عن القيم المجتمعية التي تقود إلى تماسك المجتمع لا بُدّ أن نذكر أحد أكثر الأساسات الصُلبة والثابتة التي لا بُد أن ينطلق منها أي مُجتمع صحيّ متحضر ألا وهي العدالة. فحين نتحدث عن مجتمع مُكوَّن من مجموعات مُصغَّرة تتفاعل فيما بينها فلا بُدَّ من نظام يحفظ حقوق هذه المجموعات، ويضمن أداء واجباتهم ويؤطر تفاعلاتهم بما يضمن الحصول على الحقوق وأداء الواجبات. ومن هنا بدأ تحوُّل العدالة من صفة فردية مَنوطة بأفراد المجتمع إلى نظام اجتماعي واقتصادي شمولي أكثر ذي صبغةٍ مجتمعيةٍ تقترن بالعدالة الاجتماعية.
مفهوم العدالة الاجتماعية:
لُغويًا: العدالة مفهوم فضفاضٌ يمكن تفسيره على أوجهٍ مُتعددة، والعدلُ لُغةً هو خِلاف الجَوْر، وهو القصد في الأمور، وما قام في النفوس أنَّهُ مستقيم، مِن عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادل، يُقال: عَدَلَ عليه في القضية فهو عادِلٌ. وبسط الوالي عَدْلَهُ. وتعريف العدالة الاجتماعية لُغويًا هو نقيض الظلم الاجتماعي، وهو نبذ الاستبداد، والاستعباد، والقهر والظلم.
أما اصطلاحًا فقد ظهرت تعريفات فلسفية وأكاديمية متعددة للعدالة الاجتماعية بوصفه نظامًا سياسيًّا أو أيديولوجيًّا، وسُمي بأسماء مترادفة مثل العدالة التوزيعية، ولكن في حقيقة الأمر فالعدالة الاجتماعية ما هي إلا نظام اجتماعي اقتصادي يعمل على جعل النسيج المجتمعي متجانسًا بإلغاء الفوارق الاقتصادية بين طبقات المجتمع المختلفة في المجالات كافة، وهو نظام مدني في طبيعته لا يعتمد على القوة العسكرية أو السلطة السياسية في تطبيقه، بل على العكس فإنَّ جزءًا من عناصر تحقق العدالة الاجتماعية هو حيادُ النظام السياسي فيه بشكل تام.
ونظرًا لأهمية هذا النظام عالميًا كان لا بُد من إبراز يوم عالمي للاحتفاء به وتم اعتماد تاريخ 20 شباط – فبراير من كل عام بوصفهِ اليومَ العالميّ للعدالة الاجتماعية.
محاور نظام العدالة الاجتماعية:
نظام العدالة الاجتماعية مبنيٌّ على مبادئَ عامةٍ أكثرَ من الأهداف التخصصيّة، بعض هذه المبادئ يبدو مثاليًا في الأنموذج وغير قابل للتطبيق التامّ في الوهلة الأولى، ولكن السعيَّ المتواصل لتطبيق هذه الأفكار هو صُلب نظام العدالة الاجتماعية.
ومن المحاور التي يُراد نشرها والعمل وفقها:
- تحقيق التوازن الاقتصادي بين طبقات المجتمع عن طريق منع الاحتكار، ومنع تغوّل النظام الرأسمالي البحت، وانفراد الشركات العملاقة بالمكاسب الاقتصادية.
- تحقيق التوازن في توزيع الخدمات العامة جغرافيًا مثل شبكة الموصلات العامة، وتأهيل البنية التحتية، وخطوط الماء والكهرباء والصرف الصحي، وقطاع الاتصالات ، والإنترنت وغيرها.
- تحقيق توازن توزيع الفرص المتكافئة بين أفراد المجتمع، ويُقصد بالفرص هنا الفرص كلّها بما فيها فرص العمل، والتعليم، والمشاركة السياسية والحزبية .. إلخ.
- ضمان ممارسة الحريات المقبولة مجتمعيًا في حدودها الطبيعية ومنها حرية التعبير، وحرية الفكر والاعتقاد، والحريات الدينية وممارسة الشعائر، وحرية التملك والتنقل .. إلخ.
- ضمان العدالة الاجتماعية في ميزان القانون والتشريعات، واحترام حقوق الإنسان واتّزان الواجبات المفروضة عليه.
- ضمان الأمن الصحيّ؛ لأنَّ الصحةَ أحدُ أعمدة النظام الاجتماعي، وتحقيق ذلك ممكنٌ عن طريق تحسين جودة خدمات الصحة العلاجية، والبنية التحتية الصحية، وشبكة التأمين الصحي، والخدمات الاجتماعية الطبية.
ومما يلاحظ أنَّ القاسم المشترك في المحاور السابقة كافّة أنها تقوم بتحييد الفوارق كلّها وتقوم برفضها فلا يتم النظر إلى النوع الاجتماعي، والجنس، والعمر، والعرق، والدين؛ لأنه لا فرق بين الجميع ويكفي أن تكون إنسانًا في هذا المجتمع لكي تكون مُتمتّعًا بنظام العدالة الاجتماعية.
ومع هذه المحاور العظيمة وضع الباحثون شرطين يضمنان تحقق أفكار نظام العدالة الاجتماعية، وهُما:
- ضرورة انطلاق جميع الأفراد في المجتمع من أرضية واحدة دون فوارق بينهم.
- ممارسة الحياد من جانب النظام السياسي الحاكم بوصفه صاحب سلطة مباشرة قادرة على إفساد هذا النظام لأنه من يمتلك زمام الأمور ويتولى مسؤولية توزيع الموارد.
وهذا الأمر فتح بابًا واسعًا للنقاش عن الجهة صاحبة الحق في توزيع الموارد المجتمعية وشرعية التوزيع من قبل السلطة السياسية كونها بطبيعة الحال لن تكون محايدة تمامًا في هذا التوزيع.
معوقات تطبيق العدالة الاجتماعية:
كما أسلفنا الذكر أنَّ محاور نظام العدالة الاجتماعية تقترب إلى حد كبير من مثالية الأنموذج، وهذا الأمر يجعل المعوقات تقف في وجه تطبيق نظام العدالة الاجتماعية، نذكرُ منها:
- ضرورة غياب التمييز بين المواطنين، وهذا بطبيعة الحال غير قابل للتحقيق لأنَّ الاختلاف البشري ما هو إلا وجود فِطري طبيعي لا يمكن التحكّم به مجتمعيًا.
- صعوبة توفير فرص متساوية، حيث إنَّ التساوي في الفرص بحدّ ذاته يعدُّ نوعًا من أنواع غياب العدالة، فليس من العدل أنْ تتساوى الفرص بين شخص مؤهل وآخر غير مؤهل، كما أنّه لا معنى للحديث عن تكافؤ الفرص في ظلّ نظام اقتصادي مترهلّ، لذلك يحتاج المجتمع إلى سنوات من العمل على ترميم منظومته الاقتصادية قبل تطبيق نظام العدالة الاجتماعية.
- التباين البيولوجي وإشكالية وجود الفوارق الفردية بالاعتماد على النَّسَب والأسرة، وتحديدًا في الغِنى والفقر، وتدني المكانة الاجتماعية أو علوّها. وهذا يولّد بدوره فروقًا واسعةً لدى الأبناء، ولا يمكن للنظام الاجتماعي تحييدها أو إزالتها خاصةً مع توالي الأجيال.
- عدم وجود نماذج دولية واضحة أثبتت نجاعة نظام العدالة الاجتماعية.
- إعادة التوزيع القهرية للموارد في المجتمع قد تكون تعديًا على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد.
وعلى الرغم من هذه المعوقات كلّها يبقى نظام العدالة الاجتماعية أفضل الخيارات المطروحة على الطاولة، ولكنّه لن يتحول من نظام مثالي على الورق إلى حقيقة على أرض الواقع دون أن يمتلكَ المجتمع معايير مبدئية يمكن البناء عليها، ويأتي في مقدمتها نظامٌ اقتصاديّ قوي يعول عليها، وحدٌ أدنى من الثقافة المجتمعية المُدرِكة لمحاور هذا النظام والمؤمنة بجدواه، والمستعدة على نبذِ الأنا ليسموَ المجتمع.
العدل أساس المُلك .. نُدركها جميعًا، بل وتربينا عليها، وقد آن الأوان لنسموَ بأنفسنا وأنْ نكونَ مستعدين على تطبيقها في حياتنا، فربّما كانت هي الحياة التي يتمناها الجميع، وربّما كان نظام التشغيل اللازم لنبدأ الانطلاق نحو القمّة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات