اسم المتسابق: ليث سعدالدين محمود ذيب - فئة المسابقة: الفئة العمرية الأكبر من 18 سنة



"إنَّ التاريخَ في ظاهرهِ لا يزيدُ عنِ الإخبارِ، ولكنْ فيْ باطنهِ نظرٌ وتحقيقٌ.")المقدمة، ابن خلدون) كتابُ التاريخِ "ديوانُ المبتدأِ والخبرِ في تاريخِ العربِ والبربرِ ومنْ عاصرهمْ من ذويْ الشأنِ الأكبرِ"، لمؤلفهِ العلامةِ عبدِ الرحمنِ بنِ محمدٍ بن خلدونَ أبي زيدٍ، ولي الدين الحضرميّ الإشبيليّ (1332 - 1406م)، ذلك الكتابُ، لم يكنْ ليكتملَ لولا مقدمتهِ التي نالتْ شهرةً فاقتْ ما قدمتْ له، وإنما كتبَ ابنُ خلدونَ مقدمتهِ الفذةِ لتكونَ بابًا لعلمِ التاريخِ، وأساسًا لمنِ اهتمّ به.


علمُ التاريخِ شريفُ الغايةِ بليغُ الأهميةِ، لذا، يجبُ أنْ يكونَ أبعدَ ما يكونُ عن المغالطاتِ والزيفياتِ والدسائسِ التي قد يؤديها من يأخذها لمنْ بعده كما سمعها، دونَ إعمالِ العقلِ في ملاحظةِ أسبابِ الوقائعِ والأحداثِ. فالمبصرُ ينقدُ قبلَ أن ينقلَ، والعالمُ يتفحصُ قبلَ أن يمليَ، وعلمُ التاريخِ يتطلبُ إعمالَ العقلِ معَ الخبرِ.


كانتْ المقدمةُ أساسًا لعلمِ العمرانِ والاستيطانِ البشريِّ، فالمجتمعاتُ الإنسانيةُ إنما هيَ من يصنعُ التاريخَ، فالأحداثَ التاريخيةَ لا تحدثُ إلا بسببٍ يمتدّ جليًّا أو خفيًا لتسلسلِ العمرانِ والحضارةِ، ولظواهرَ سكانيةٍ، ديموغرافيةٍ، اجتماعيةٍ، سياسيةٍ، اقتصاديةٍ أو ثقافيةٍ، وهو ما يفتحُ نافذةً لعلمِ الاجتماع.


أظهرَ ابنُ خلدونَ في مقدمتهِ اهتمامًا بالغًا بالدولةِ وتاريخها، وتبدلِ أحوالها بينَ الرخاءِ والشدةِ، القوةِ والضعفِ، والفقرِ والترفِ. يرى الكاتبُ أنّ رابطةَ العصبيةِ الفطريةِ بأشكالها المتعددةِ، خاصةً تلكَ التي تنشأ منَ النسبِ، هيَ دافعُ الحكمِ، فتكونُ بذلكَ الرئاسةُ وبذرةُ السلطةِ الأولى. وبتعاقبِ الأجيالِ تتفرقُ الأعراقُ، وتنطفئُ مظاهرُ العصبيةِ في الحكمِ والنسبِ، ويعمُّ فيهمُ الترفُ والراحةُ نتيجةً لما بذلهُ أجدادهمُ الأولُ، حتى يتخاذلَ معظمهمْ عن دفعِ البلاءِ إذ اعتراهم، وذلكَ أذانٌ بانتهاءِ الدولةِ.


ولأنَّ العصبيةَ تفضيْ إلى قيامِ المُلْكِ، والملكُ يفضيْ إلى قيامِ الدولِ، والدولةُ تقودُ إلى الحضارةِ، فإنَّ الحضارةَ نهايةُ العمرانِ وبدايةُ السقوطِ، تبعًا لغلبةِ الرخاءِ والراحةِ، والشعورِ بدوامِ الملكِ والرئاسةِ؛ فتطغى المصالح الفرديةُ على الجماعيةِ، وتحتكرُ الدولةُ ما يفوقُ حاجتها منَ السلاحِ لتظهرَ القوةِ. فإذا تنازعتِ الدولةُ مع غيرها، كانتْ حربٌ تهلكُ إحداهما أو تخضعها لسلطةٍ ثارتْ فيها العصبيةُ. فللدولِ أعمارٌ كما للبشرِ، وذلكَ ما يسمى نظريةَ العصبيةِ لابن خلدونَ.


تباعًا، لا شكَّ أنَّ المغلوبَ مولعٌ بالاقتداءِ بالغالبِ، فالإنسانُ بطبعهِ إذا غُلبَ مالَ إلى تقليدِ غالبهِ في عاداتهِ وأفعالهِ بوصفها مظهرًا للقوةِ والغلبةِ، سواءً تقدمَ عليهِ في الحضارةِ أو تأخرَ. ولما كانتِ الحضارةُ هيَ غايةُ الدولِ، والحضارةُ فيها ما فيها منَ الترفِ، فهيَ لا تتمُّ إلا إذا كثرتْ الصنائعُ، واشتغلتِ الدولةُ بالعمرانِ والبنيانِ، وأبدعتْ في ذلك. فأوردَ ابن خلدونَ صنائعَ الفلاحةِ والبناءِ والنجارةِ الحياكةِ والخياطةِ والطبِّ والخطِّ والكتابةِ وغيرها الكثيرُ، بتفصيلِ كلٍّ منها وما تحدثهُ في سلمِ الحضارةِ.


برزَ الاهتمامُ في المقدمةِ بالعلومِ بكلِّ أصنافها، كالتفسيرِ والحديثِ، والفقهِ وأصولهِ، والعلومِ التجريبيةِ والعقليةِ والهندسيةِ، وعلمِ الكلامِ والمنطقِ والفنونِ والحسابِ والعدِ والطبِ. ولمْ يهملِ الكاتبُ أثرَ الاهتمامِ بهذهِ العلومِ في تطورِ الحضارةِ، فالسلطةُ التيْ تقدسُ العلمَ يدومُ لها الملكُ، فإذا ذهبَ العلماءُ والصالحونَ، ذهبَ الملكُ معهمْ.


ومن الملاحَظِ أن ابنَ خلدونَ أبدى اهتمامًا بالعربِ وأحوالهمْ، فأوردَ طبائعهمْ وما فيهمْ من الغلظةِ والشدةِ، فقد جُبِلَ فيهمْ عدمُ الانقيادِ، والتنافسُ في الرئاسةِ، مما جعلَ ابن خلدون يرى أنَّ العربَ لا يستقيمُ لهمُ الملكُ إلا إذا اصطبغَ بالدينِ وامتدَ منه، بذلكَ نشأتْ دولُ الإسلامِ الأولى القويةُ زمنَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدينَ ومن بعدَهم. ومما كانَ لابنِ خلدون السبقُ في ملاحظتهِ وإبصارهِ هوَ أثرُ البيئةِ الجغرافيةِ وهوائها في طباعِ أهلِ المجتمعِ وأحوالهمْ، فلا يستويْ في ذلكَ أهلُ الصحراءِ وأهلُ الخضراءِ.


إنما استقى ابنُ خلدونَ أفكارهُ في كتابهِ من معاصرتهِ لملوكٍ وحضاراتٍ شتى، وأحداثٍ تاريخيةٍ متنوعةٍ في أقاليمَ مختلفةٍ، فكانَ نتاجُ ملاحظاته وتأملاته مدادَ قلمهِ في مقدمتهِ. قد يكونُ الكاتبُ أخطأَ وكثيرًا ما أصابَ، نُقدتِ المقدمةُ وأشادَ بها منْ أشادَ، لكنْ لا يختلفُ اثنانِ على أنها حوتْ من منهجيةِ التفكيرِ والملاحظةِ والاستنباطِ والفلسفةِ ما يستحقُّ أنْ يُدرَّس، فضلًا عن ما وردَ في الكتابِ منْ قواعدِ العمرانِ وضوابطِ الدولِ. وبذلك تركَ ابن خلدون أثرًا لا يمحى في علمِ التاريخِ والاجتماعِ، وأضحتْ مقدمتهُ – بترجماتها المتعددةِ لغةً وفهمًا - مرجعًا لأهلِ تلكَ العلومِ.

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة