اسم المتسابق: الاء بسام مصطفى مصطفى - فئة المسابقة: الفئة العمرية الأكبر من 18 سنة



بين ليلة وضحاها، وجد فيكتور نفسه في محنة لم تكن تخطر على بال، يقاسي تجربة مغمورة بالآلام، بعد هجمة خُطف فيها عدد كبير من النساء والرجال والأطفال، سيقوا مكدسين مكبلين مغمّي الأعين، إلى معسكر نازي، لم يكن فيكتور على حد وصفه سوى الرقم ١١٩، جرد من وثائقه، وممتلكاته، وملابسه، كان مجردا حتى من إنسانيته، يمتلك جسدا ورقما فقط.

كان يقف مع جموع غفيرة، يعرضون تباعا على ضابط يشير لكل واحد أن يتجه إلى اليمين أو اليسار، وقد كان محظوظا إذ أرسل إلى اليمين، لكن صديقه، الوجه المألوف الوحيد الذي كان يتعلق به، أرسل إلى اليسار، وفي المساء حين سأل عنه، أخبرته الجموع أنه قد تحول الآن إلى ذرّات من الدخان، وأروه أفران الغاز التي يعدم فيها كل يوم آلاف ممن لم يعودوا قادرين على العمل، حيث يرى النازيون أنه من الأفضل أن يتحول هؤلاء الحثالة إلى وقود.


في البداية كان الأمل عاليا، ربما ستحدث معجزة، ينتهي فيها الكابوس، طاقة الاحتمال عالية، مشاهد الموت مؤلمة، والأحلام تدور حول الخروج من هذا المكان، لكنهم كانوا يسبحون في نهر من المجهول، تمر الأيام تباعا دون قدرة أحد على إحصائها، يتعرضون في كل ثانية لأبشع أنواع الأذى الجسدي والنفسي، يهينهم السجانون ويعاقبونهم كلما حلا لهم ذلك، ولا شيء يلوح في الأفق سوى دخان الجثث المحروقة.

أصبحت مشاهد الموت مألوفة، عندما كان يسقط أحدهم، كانت تتسلل الأنامل لتسرق كسرات الخبز المتبقية في بنطاله، وينادي آخر حتى تحمل الجثة بعيدًا، ولا يرون في الأحلام سوى الطعام والملابس الدافئة.

لا بد وأن خطر في ذهن كل منهم ولو لمرة واحدة، أن ينتحر، فينتهي كل هذا العذاب! وهنا بدأ فيكتور بالتساؤل؛ ما الذي يبقي هذه الجموع على قيد الحياة؟

ما هي الطاقة الخفية التي تدفع واحدا منهم لتفقد الآخرين والمرور على الغرف خلسة ليدعم غيره، ويهون عليهم، ويعطيهم ما تبقى معه من طعام إن استطاع، وهو يعلم أنه يخاطر بأنفاسه الأخيرة.

لِمَ قد يريد عاقل أن يحافظ على يوم آخر في هذه النوعية من الحياة، المجبولة بالألم والمعاناة والأذى وانعدام القيمة؟!


وللإجابة على هذه الأسئلة فقد بدأ فيكتور يتأمل نفسه والمحيطين به، يبحث بكل ما استطاع عن هذه الطاقة الغريبة التي تبقيهم على قيد الحياة.


لاحظ حينها تعلقه وتفكيره الدائم في زوجته، التي لا يعلم إن كانت لا تزال على قيد الحياة، لكنه ظل يواظب على أوقات يحادثها فيها كأنها إلى جواره، يستشعر بحضنها يلفه، يشكو لها مرارة الأيام، ويستذكر حلاوة الأيام والمواقف التي جمعتهما، ولم يكن وحيدا في ذلك، معظم السجناء الذين حافظوا على بقية من أمل، كانوا ينهلونه من فكرة أن فردا من عائلتهم ينتظرهم خارج هذه الأسوار، يحتاجهم، وسيحافظون على وجودهم لئلا يخذلوا أحباءهم، وليظلوا أوفياء للذكريات التي عاشوها سويا.


وجد فيكتور طاقة أخرى في عمله، تذكرَ بحثا كان يعمل عليه، وحاول أن يتمه بطرق خطيرة ومضحكة، كاد أن يلقى حتفه بسببها، وكانت هذه القيمة التي يجدها لنفسه ويستمدها من عمله، يستمدها آخرون من موهبة، أو التزام معين كانوا شغوفين به ويرغبون بالعودة إليه.


لاحظ فيكتور أيضا أن معظم السجناء باتوا أقرب إلى الإله، أكثر تدينا، واستشعارا للطاقة الروحانية، يضعون كل ثقتهم وأملهم في الذات العظمى القادرة المعجزة، التي بإمكانها إنهاء كل هذه المأساة في ثانية.

ولاحظ أيضا أن الجمال باتت له قيمة غير مسبوقة، نبتة صغيرة تنمو، طائر يحلق، يبني عشا أو يطعم فرخه الذي فقس حديثا، ريح عذبة، نوتة موسيقية، صوت جميل يدندن أغنية معروفة... كانت لحظات لا تقدر بثمن، لم يتخيل واحد منهم أن تبهجه بهذا القدر.


والمعنى الأخير الذي وحدهم، هو المعاناة، أن يصمدوا في وجه كل هذا ويغلبوه، أن يخرجوا من مأساة بهذا الحجم قادرين على الابتسام والحب والعطاء، أن يفخروا بأنفسهم لتجاوزهم محنة كهذه، ويخبروا العالم عنها، يلهموه، ويبذلوا ما في وسعهم ليكون مكانا أفضل.


إن الأفراد الذين كانوا ممتلئين بهذه المعاني، وقادرين على استشعارها وتذكير أنفسهم بها، نجحوا في الصمود والتسامي، ليحولوا هذا القدر من الألم، إلى رغبة في تضميد جراح الآخرين، وإعانتهم، والترويح عنهم.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جميل جداً

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة