رسالة ما بعد منتصف الليل المؤرّق الحزين على وفاة حاتم علي!

إنها الثانية بعد منتصف الليل.. لا يبدو وقتًا مناسبًا لرسالة يا عايده، ولكنني أختنق بالمشاعر وأغص بالكلمات التي تتكدس فوق بعضها كـ"مونَة الأونروا" في حلقي الجاف إلا من قصيدة محمود درويش "أيها المارون.. بين الكلمات العابرة.. احملوا أسماءكم وانصرفوا"، لا.. لا أسمع القصيدة بل أراها متجسّدةً في المشهد الـ.. (افتتاحي) لمسلسل التغريبة الفلسطينية في الحلقة الواحدة والثلاثين، حين يفيقُ ماردُ رشدي الذي سجنه طويلًا في شخصيته المتسامحة الطّيبة المُراقبة عندما يرى الاحتلال يجثم من جديد ويبدأ مسلسلٌ آخر من الذّل والهوان في المخيمات الفلسطينية، فيقرر البحث عن بارودة والده المخبأة في أحد الكهوف، تنتظرُ يدًا حرّةً تمتدّ إليها وتخرجها إلى النور.. إلى الحرية.. إلى الحق.

لم يكن رشدي إلا الممثل والمخرج السوري حاتم علي – الذي جاء خبر وفاته يوم الثلاثاء ليظلّل نهاية هذا العام بالسواد. يا إلهي يا عايده! لا أدري كيف أصف شعوري، ولكنه مزيجٌ من الحزن والخوف! أجل.. الخوف على ذاكرتنا يا عايدة، الخوف على فلسطين! على جيلٍ يحاول صنّاع الإعلام وكلابه إتلاف ذاكرته وتزييف تاريخه. حاتم علي لم يكن مجرّد ممثل ومخرج، بل كان وزارة ثقافة وأوقاف مستقلة حرّة – كما وصفه أحدهم. ابن الجولان السوري المحتل الذي تربّى لاجئا في دمشق وعاش ردحًا من عمره في مخيّم اليرموك، وكان يردّد بإيمان وثقة بأن "القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعهم". فهل ما زالت القضية الفلسطينية كذلك؟ أم أن التعب وطول الأمل قصم ظهور العرب ونخرت عظامهم الخيانات؟

كنتُ يومَ أمس قرّرتُ أن أنقطع عن وسائل التواصل الاجتماعي إلى الأول من يناير من العام الجديد كي أحظى بنهاية عام هادئة و(ملمومَة).. في المرة الأولى التي فعلتُ فيها ذلك مات حبيب الصائغ، وقطعتُ (انقطاعي) لأرثيه، ثم تابعتُ عزلتي الإلكترونية. ولكن، ما عساي أقول الآن يا عايده! ما عساي أكتب أو أنعى؟ عندما تصفّحتُ وجوه الأصدقاء الذين علّقوا على خبر وفاته استوقفني تعليق أختي مها على حسابها في فيس بوك.. كانت تنقل مشاعري حرفيًّا إذ كتبت: "عندما كنتُ صغيرة أعتقد في المرحلة الإعدادية أول ما شاهدتُ تمثيلك، شعرت أنك إنسان متربّي، أنك تشبهنا. تصلح أن تكون أخي الأكبر لا أدري لماذا! لكن هكذا شعرت، شعرتُ أن بك حياء، بك أدب، لديك خلق. رحمك الله حاتم علي".

آخ يا عايده! أتدرين أن حاتم علي يشبه في ملامحه أخي عصام.. كنتُ عندما أراه على الشاشة أتخيل أخي عصام، في طيبته وحيائه وهدوئه.. كان عصام مغتربا وعاد إلينا متأخرا عندما أصبحتُ في الجامعة، لا تلك الصغيرة المشاغبة التي تركها.. كان حاتم علي – كما وصفته مها – يصلح أن يكون أخي! ثم بدا لي الآن أنه لم يكن أخي وحدي.. كان أخًا لنا جميعًا.. لكل المقهورين الذين فقدوا أجنحتهم.. كان جناحًا!

منذ شهر تقريبًا قررتُ أن نتابع جميعا مسلسل التغريبة الفلسطينية مع بداية السنة الجديدة.. كتبُ د. سلمان أبو ستّة التي اقتنيتها مؤخرا تحملُ صورا وخرائط تفصيلية عن قرى فلسطين وما حدث قبل وأثناء وبعد النكبة ثم النكسة.. لكن لا، حاتم علي كان مدركًا أن الخريطة البصرية أقوى في جيلٍ كل ما حوله يصبّ صبًّا في قوالب مطبوخة سلَفًا لكي تغيّبه وتمسح دماغه – لهذا طويت صفحة هذا المسلسل ولم يروّج له ويترجم وينشر في أصقاع العالم كسلسلة مسلسل (الجوارح) الفانتازيّ مثلا! أعلمُ أني سأواجه أسئلةً لا تحصى من صغيراتي، وأن بعض المشاهد ستكون قاسيةً عليهن.. لكنها تاريخنا، وحياتنا، ومعظم ما جاء في التغريبة رأيته في حكايات جدتي ووالديّ حرفيًّا.. ولا أريد لهنّ أن ينسَين.. ولا أن تُشترى حريّتهن برضاهنّ غدًا.. وهنّ مغيّبات!

إنها الثانية والنصف.. وحزني يخِز خاصرَتي كرصاصة.. بقي يومان على نهاية عام 2020، يا ربّ.. لا تفجعنا؛ فالقلب ما عاد يحتمل!



_________________________

ملاحظة: قبل أن أكتب لك هذه الرسالة حاولت تنويمي مغناطيسيا بإنهاء قراءة رواية (الرسام تحت المجلى) لأفونسو كروش. أقتبسُ لك هذه العبارة من الرواية: "كلما ازداد الارتفاع تصاغر الناس حد الاختفاء. والأمر سيّان مع الحكومات؛ فمن فرط علوّها لا تعلم بوجود الناس. قد تتحدّثُ عن الشعب، ولكن ككيان مجرّد، تمامًا كما نتحدّث نحن عن الله. لا أحد من الحكومة هناك في الأعالي، يعرفُ ما إذا كان الشعب موجودًا في الحقيقة؛ إنها مسألة إيمان".وهكذا يا عايدة.. أكاد أجزم أن قضية فلسطين، أصبحت اعتبارًا من عام 2021 وما يليه... مجرّد إيمان!

رشة ملح

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رشة ملح

تدوينات ذات صلة