قصة وعبرة .. الكلمةُ الطيّبة يلين بها كلُّ قاسٍ, وإنَّ اللطفَ والدماثةَ لتغلِبُ الغلظةَ والفظاظة

أخذتني الذاكرة نحو حادثةٍ لطيفةٍ حصلت معي منذ عدة شهور، وكأنها تهمس لي:"دوِّنها" فهي حادثةٌ لطيفةٌ بسيطةٌ أحُبِّها بما فيها من دروسٍ وعبر،

فذات يومٍ كنت على وشك التأخّر عن ميعادِ محاضرتي فكنت مُسرعاً مستعجلاً بعض الشّيء فأوقفت سيّارة أجرةٍ "تاكسي"، ونظرتُ إلى السائقِ فإذْ بهِ كهلاً كبيراً في السّن وكان قديماً كالحَ الوجه عابساً، كأنه قد طلَّقَ ثلاثَ زوجاتٍ له هنَّ الابتسامةُ والحيوية والأمل، فحتى الصّباحُ صارَ عاجزاً عن بثِّ الحياةِ في قسَمَاتِه، فأضحى غليظاً فظّاً صعبَ المراس.


فألقيتُ السلام عليه ثمّ أعلمته بوجهتنا نحو مَشفى الميري، وكعادتي عندما أكونُ مستعجلاً أختارُ الطرق الفرعية اجتناباً لازدحام الطرقات الكبرى، أمّا هو فكانَ يكرَهُ أن يختارَ له الزبونُ مسارَه، فلمّا طلبته أن يسلكَ من حيثُ شئت أنا، زادَ تجهُّماً وضجِرَ منّي وتأفّفَ، وقالَ:" دائماً يحاولُ الرّاكبُ أن يظهرَ بصورةِ العارف لكل شيء فيحشرُ أنفه ولا يدعنا نعمل عملَنا كما نحب" وكنتُ كعادتي في كلِّ صباحٍ وقوراً متفائلاً مستبشراً، فأمرتني هذه النّفس المبتهجة بالصباح أن ألاطفَ هذا الكهل المُقَطَّب، فرددت عليه:" يا حج، روّق من نفسك ولا تحمّل الأمور أكثرَ مما تستحق واصطبح واستبشر، وإن شاء الله سيكون الطريق سهلاً سالكاً".


فألفيتُ إذ به لانَ معي قليلاً، ومضينا قُدُماً فإذا امرأةٌ تقودُ مركبةً تجاوزه فَغَضِبَ مجدداً واشتاطَ عليها قائلاً:" ايوة يا اختي ما هو السّتات محدش بيقدر يكلمهم" فضَحكْتُ من مقالته، واخترتُ أسلوباً آخرَ يداعبه ويحرك فيه رُفَاتَ البشاشةِ، فقلتُ:" إنّك مُحِقٌّ، لكنّي أرى أنّ الرجالَ هم السّبب" فقالَ :ها؟ ، قُلْتُ أما سمِعتَ ما قال الرافعي، قال ومن الرّافعي، قُلتُ لا يهمك، الرافعي يقول:" وما عجَبِي أنّ النّساءَ ترجّلَت..لكنَّ تأنيثَ الرجال عُجَابُ!" فاستهلَّ وجهه لِما سمع، واستمرَّ يطلبني أن أُعيدَ بيتَ الشعر وكأنه حاكى خطباً في جوفه، ووصلتُ إلى نقطةِ النزول، وكانَ قدْ لانَ وسَهُلَ مراسه قليلاً، فقالَ :" لن تنزل يا دكتور حتى تحفِّظني هذه الكلمات" فابتهجتُ رغم أنني أتأخر، وقلت: لك ذلك شريطة أن تفكّ هذا العبوس، وما زلتُ أحفظه الكلماتِ كلمةً كلمةً حتى حفظها، وتركته وأنا ازددت تَهَلُّلاً كأنّني لمّا وهبته أملاً ما زدتُ فيه بل فيَّ، فقلتُ في نفسي:" تالله إنَّ اللطفَ والدماثةَ لتغلِبُ الغلظةَ والفظاظة".


~ باسل زياد


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

كما عهدناك أخي وصديقي د. باسل زياد المبدع.. نفع الله بك وبعلمك.. وفقك الله وجعل النجاح حليفك.

إقرأ المزيد من تدوينات تطمئنُّ القلوب

تدوينات ذات صلة