إهداء للصامدين لكل من ظن نفسه فارغا مهمشا بينما القبس في قلبه يفضي على العالمين ضياء ليثبت الله أقدامكم ويربّت عليكم لألّا تحزنوا أبدا بعد اليوم



ستار الليل ينجلي ليعلن عن اشراقة شمس يوم جديد في قرية دقادوس التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهليه ، ومن منطقة زراعية يحيطها الغيطان من كل جانب تبدأ الحكاية ..استيقظ على صوت جلبة قادمة من المطبخ ، ورائحة زكية تداعب أنفي بقوة ، رائحة أحفظها عن ظهر قلب ، أمي على الأرجح تصنع الفلافل الساخنة ، توضأت وأديت فرضي ثم ساقتني قدماي إلى المطبخ لأتأملها تعد الطعام بنشاط وسعادة نابعة من القلب أراقبها وهي تشكل أقراص الفلافل بيديها وتثير اعجابي أن كل الأقراص تأخذ نفس الشكل والحجم ، أعتقد أن يد أمي مسطرة دائرية يجب أن تدرج إلى وحدات القياس ، ثم تلتقط أذناي صوت صرخات البيض المسلوق عندما تتدحرج في القدر ، تنحنحت قليلا لألفت انتباهها فاستدارت إلي ببسمتها الواسعة وضحكتها البريئة

تقدمت وقبلت رأسها ملقيا تحية الصباح خاصتي ” صباح الخير يا قمرُ حسن “ ، لتحتضنني ” هيا أيها المشاكس ساعدني لنعد المائدة “ ، لأضحك بخفة وأنا ألبي النداء بكل رضا و حماس وأبدأ بتحضير الصحون ..هذه عائلتي أنا وأمي فقط نقطن في هذا البيت القديم شديد التواضع ، والمكون من طابق واحد وغرفتين دورة مياه ومطبخ ، لا أملك في هذه الدنيا شيئا أثمن من أمي .


أمي السيدة قمر وهي القمر حقاً وحيدة أبويها ولدت بوجه مستدير فكانت كالبدر في ليلة تمامه ، و ارتسم الحسن بكل معانيه في وجهها . أحبها أبي حباً جما وتزوجها وأفنى حياته كلها لاسعادها ، لكن الله اختاره ليكون بجواره و فاضت روحه إلى بارئها قبل موعد ولادتي بيوم واحد ، فأسمتني أمي حسناً لعل الله يجعلني بارا بها محسنا إليها وقد أصبحت إرثها الوحيد في تلك الحياة . ولا يخفى أن امرأة حباها الله من الحسن ما حبا أمي أن تكون محط أنظار للجميع فيتقدم القاصي والداني لخطبتها إلا أنها رفضت بحزم واعتزلت الزواج وعكفت على تربيتي وكرست حياتها كلها لأجلي ، حين أفكر بأمي أرى بأم عيني لوحة الإيثار المكتملة ، فهذه ماكينة الخياطة التي ستنكب عليها على الفور بعد انتهاء الفطور لتقص وتقيس وتخيط بحرفية عالية لتسد احتياجات البيت التي لا يستطيع معاش أبي بمفرده تأمينها ، هذه الآلة التي أسمع صوتها في الليل والنهار فبات النوم يجافي مضجعي إذا لم أسمع صوتها

.

أمي التي لم تكمل تعليمها المتوسط لكنها أحسنت تربيتي و اهتمت بدراستي حتى كبرت و أصبحتُ اليوم شابا في الثانوية العامة ، أنا قضية أمي الوحيدة وقصتها الكبري وأمنيتها العذبة الفريدة التي لا ترجو سواها أن تراني طبيبا قبل أن تعبر شهقة السماءحلّ المساءُ ، لأدلف إلى غرفتي الصغيرة المكونة من سرير خشبي بالٍ ومكتب من الفورمايكا الرخيصة ، وخزانة ملابس ذات باب واحد لكنها تؤدي الغرض لشخص مثلي لا يمتلك سوى بنطال واحد و ثلاثة قمصان فلا يمتلك رفاهية الحيرة .


ارتميت على سريري الصغير أمدد ساقاي المنهكتين وأدلكهما بعد يوم شاق من التنقل من بيت أستاذ لآخر حتى انتهت حصتي من الدروس اليوم ، حدت بنظري إلى المكتب فانجذبت لقراءة الكتاب الذي استعرته هذا الشهر فيحول بيني وبين النوم رغم شدة تعبي ، وبينما أنا منهمك بين طياته إذ تفوح من حولي رائحة مشروبي المفضل تتبعها جملة يتراقص لها قلبي ” الشاي الحسن لا أعده إلا لحسن “ ، إنها أمي وتاج قلبي التي تصر يوميا على اعداد الشاي لي في هذا الوقت رغم تعبها ، لكن لا شيء يحول دون ثنيها عن هذا . ثم تجلس بجانبي لأقص لها عن ما أقرأ وتتابع هي بحماس كطفل صغير يستمع إلى قصة جدته قبل النوم بشغف ، أقرأ بصوت عالٍ محافظا على ضبط المخارج والحروف مما يزيد من جل متعتها لتحتضنني بعينيها اللامعتين وتحتفظ بابتسامة عذبة تنفرج بها أوتار شفتيها هكذا كانت تمضي أيامنا أستيقظ في الصباح أؤدي فروضي أساعد أمي في اعداد الفطور أنطلق لمباشرة دروسي و تنغمس هي في أعمال المنزل حتى نلتقي في المساء خلف كتاب وثير حتى تبدل كل شيء فجأه .


حل الدجى ذات يوم وغشى قريتنا في سماء ليل لا يرحم ، مرضت أمي بمرض لعين على إثره أصبحت طريحة الفراش ، بدأ الأمل في التخلي عني وتبعثرت كل الموازين على حين غفلة ، فلم أعد أستيقظ على رائحة الفلافل ولم أعد أرى ابتسامتها الوثيرة كل صباح ، مرضت فوجدت كل أركان البيت تئن لمرضها وشبت وأنا الصبي لديها ، واستشعرت ثقل المسؤولية الجسيمة التي أصبحت ملقاة على عاتقي ،أصبح معاش أبي لا يكفي الدواء و المأكل والمشرب وتداركت ضرورة بحثي عن عمل ، لكن أي عمل هذا الذي يقبلني وأنا لم أحصل حتى على شهادة الثانوية العامة ، لم أجد مفرا إلا ً من الأعمال الشاقة التي لا تتطلب سوى بنية قوية وقلب فولاذي والكثير والكثير من الصبر. أصبحت عاملا باليومية تحت يد رئيس العمال هذا الرجل الذي يصبغ الشيب رأسه و يحفر الزمن معالمه على بشرته ويبدو عليه الوقار “العم عادل” والذي اتفق معي أن يمنحني أجرة يومية تعادل ربع معاش أبي مقابل أعمال البناء ، فصِرت أكسر الحجارة وأحمل الحصى على ظهري لمسافات طويلة حتى يجف حلقي و يقطر العرق أنهارا وبحارا .مرت أشهر ، عرفت فيها معنى الضياع ، هائم على وجههي ، صرت أستيقظ قبل معظم الطيور ، أناول أمي الدواء وأطبع قبلة على جبينها ، أعد الطعام وأغسل الثياب والصحون ، ثم أجر قدمي المتعبتين إلى العمل ، أمسك مطرقتي وأبدأ في تحطيم الحجارة ، أتقاضى أجرتي التي زادها العم عادل للنصف بعد أن علم بظروف مرض أمي جنبا إلى دراستي فأشفق على حالنا ، أعود في المساء حاملا دواء أمي الذي اشتريته بكل معاش أبي وبعض الطعام الذي توفره لي أجرتي ، أقرأ لها كتابا جديدا ، و انا في الحقيقة أنظر إلى وجهها المنهك وقد حفرت فيه معالم الدهر من أجلي ابتلع دمعتي ببسمة كاذبة وأمازحها “ أما اكتفيت دلالا يا قمر ، ” فتبادلني بسمة متعبة وتفر من جفنيها دمعة هاربة لم يكن هذا كله يؤلمني بقدر دموعها و أناتها وزفراتها الملتهبة التي تقطع نياط قلبي ، ليتني أغسل بدموع الوفاء وجعك فتشفين يا قمري ، ليت الموت يتخطاك إلي وليت البأس إذا قصدك يقع علي .

يقال هي ليلة بكى فيها القمر وأنا في كل ليلة يبكي قمري


.جاء اليوم الموعود ، وبينما أحمل الحجارة على كاهلي والعرق يتصبب من جبيبني ، هاتفتني جارتنا ” العمة صفاء ” والتي تجالس أمي أثناء فترة عملي في الصباح وبصوت يغلبه البكاء ” حسن ، قمر تريد رؤيتك في الحال

ضاقت أنفاسي ودبت رجفة الخوف في أوصالي وانطلقت أهرول إلى بيتنالأجد أمي ملقاة على السرير بعينين شاخصتين وجسد هزيل وروح مغتالة وبشرة شاحبة

أمسكت يدها فشعرت ببرودة الموت ، وانتابني خوف يهز الوجدان ، مدت أناملها المرتجفة نحو جانب وجهي تتلمسه بحنان وعينان مغرورقتان بالدموع وبصوت هو أقرب للهمس مصحوب بحشرجة الألم قالت ” عدني يا حسن ” ، نظرت لها بصدمة قبل أن أخفي في راحتي دموعي الحبيسة وعقلي لا يكاد يصدق أهذه وصية الموت ! هل أمي على فراش الموت حقا !!

امتدت يدها الأخرى ببطء وهدوء نحو شعري لتمسد خصلاتي المموجة بحنان لتقترب من وجهي وتمسح دموعي بابهامها ، ليأتي صوتها الواهن ” عدني يا حسن .. عدني أن تبذل جهدك للنجاح ، أن تحقق الحلم – حلم أبويك – وأن تجد وتكدح لتكون طبيبا يمحو الأوجاع وبلسما يشفي القلوب ، عاهدتي أن تكون طبيب الرحمة منقذ المساكين وملاذ الفقراء ، كلما أخفقت حاول من جديد والله يعطي على قدر الجهد رزقك مكتوب لكن سيأتيك على قدر سعيك ، اتخذ تقوى الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة ، عاهدني أن تحسن الظن بالله أبد الدهر ولا يعرف اليأس لقلبك سبيلا ، كن أنت من يستخدمه الله لجبر ااقلوب المنكسرة وإن كنت أنت أكثر الناس انكسارا ، اعلم أني بعين قلبي معك أراقبك متى ما نظرت إلى صفحة سماء الليل كما اعتدنا معا ، عدني أنك ستكون رجلا خليفة والدك .

الوعد يا حسن !

اقتطع حديثها بصوت نحيبي وأنا أجيب بصوت مكتوم أعدك يا حبيبتي ..

تيبست شفاهي وأنا أنطق أمي أمي وما من مجيبماتت أمي ، ففقدت وحيدتي وترجمان كياني ومن ملكت مفاتيح نفسي وانطفأت حياتي فتساوى عندي النور والظلام ، مادت بي الأرض وتخليت عن كل دوافعي للعيش وكل آمالي للحلم .

لم أستطع المكوث في المنزل بعد انتهاء مراسم الدفن وانصراف المعزين من سرادق العزاء ووجدتني أسير في وحشة الليل الكاحل بملابسي الرثة الممزقة مشتت الذهن ، ضائع الفكر والروح والقلب ، يملأني الألم ويقتلني الحزن واليأس أحبس دموع العجزوجدت قدماي تسيرني إلى حيث لا أدري ، هائم على وجهي في الطرقات أقطع مسافات شاسعة بشق الروح ، خلفي خطوات تحفر أنات الوجع وأمامي غيب مجهول ، وجدت نفسي أمام الحجارة أكسرها بكل عنف وغضب وجدتها السبيل الوحيد لأفرغ ثورتي وأتخلص من حزني وسخطي وقلة حيلتي بينما دموعي الساخنة تحرق وجنتاي وقلبي ، لم أنتبه في تلك اللحظة إلى ذلك الألم الشديد الذي يسري في ذراعي الأيسر خذلتني قدماي فسقطت من فرط الألم لينتهي بي الأمر ممددا على رمال الصحراء وسط الظلام ، أناجي وحشة الليل وقد انطفأت كل مصابيحه وأجمل ما يزينه قد غاب ، غاب القمر ، فلا قمر ولا نجمات ولا غيم ، رفعت عيني إلى السماء فاحتلت قسمات وجهها الجميل رقعة السماء فغشت مقلتاي هالة ضبابية وارتعد قلبي حنينا إليها

و انخرطت في بكاء هيستيري وأنا أضرب الهواء بيدي والأرض بقدماي وأصرخ بأعلى صوت صرخة أودعت فيها كل الغضب الكامن في أعماقي

لماذا خلقتني في هذا الزمان الرديء !!

هل خلقت لأتعذب !!

لماذااا أعيييش

لماذا خلقتني يتيما فقيرا مدقعا وفقدت أمي فاستحالت حياتي ركضا من وجع إلى وجع

لماذا تتركني في هذا الألم والهوان وحيدا وانا ابن السابعة عشر عاما ؟

استمر نحيبي حتى سمعت صوتا رجوليا رخيم مهيب يقول لي ” أتحاور القدر ؟!”

انتفضت ورفعت وجهي مشدوها إلى مصدر الصوت لأجده “العم عادل ” يبادلني نظرات جادة صارمة وهو يتشدق بهدوء حازم يثير الريبة ” أقدار الله تجابه بالحمد والرضا ، إنا خُلقنا في كبد ، جُبلنا على حياة تتطلب ثبات الطير في العاصفة فأما الذي لا يعي هذا فليدفن رأسه في الرمال ويكتب قصائدَ بالدمع وستمضي الحياة أيضا “

حاولت النهوض ببطء متحاملا على قدماي محاولا استيعاب كلماته التي صفعتني بأصابع الدهشه محتفظا في نفسي بصدى عباراته القاسية التي لا تناسب أبدا مثل هذا الوقت

فتعثرت في اللاشيء ، امتدت يده القوية تطبق على كتفي بقوة وبصوت أجش “ستكمل الطريق ، لن أتركك يا حسن ، ستفي بوعد أمك “تبادلت معه نظرات جمعت بين الصدمة والصمت السحيق أصابني حديثه برجفة قوية في قلبي زعزعت ثوابته وحطمت قواه الواهنة ، نظرت إلى يده الثابتة على عضدي وتسلل إلى قلبي بصيص من الأمل من قلب الحلكه لا أعلم كيف حدث لكنه وبطريقة ما تمكن من اخماد اهتياجي بهدوء .مضت الأيام وعاد الأمل يدب شيئا فشيئا يدفعني إليه صوت أمي “الوعد يا حسن ” وإن لم يتبدد الظلام بعد استطعت التجاوز الظاهري لكني لم أستطع كبح دموعي كل ليلة لاستجلاب النوم ، عكفت على دراستي وعاهدت نفسي أن أبذل في سبيل حلمي ما يستعذب معه الصبر وتنقطع معه قبلة القدر .وغدت أيامي ترتكز على تأدية فروضي ومذاكرة دروسي ومباشرة أعمال تكسير الحجارة مع تناول الجرعة الأسبوعية من قراءة كتابي الأسبوعي المستعار أقرأ بصوت عالٍ وأختال بسمتها تداعبني وحماسها الطفولي يعانق مهجتي

يأتي الليل ليسدل ستاره وينير مصابيحه فأجلس أنا أراقب قمري وأنا أحتسي “الشاي الحسن” لأستشعر روحها بالجوار تصاحبني صورتها وصدى صوتها لا يفارق أذني .مضت أياما أكثر وشهورا أسرع وأنا منكب على هدفي


يوم إعلان النتيجة


جاء اليوم المنتظر ” يوم اعلان نتيجة الثانوية العامة “

كنت أجلس على فراش أمي ممسكا بسبحتها ينتابني القلق والخوف أدعو الله بكل رجاء أن يلبي ندائي ولا يخيب أملي ويعينني على توفية العهد والوعدهنينات وشعرت بزلزلة الكون من حولي ، أصوات الزغاريد الصادرة من هنا وهناك من جنوب البلدة وشمالها شرقها وغربها ، أهل القرية جميعا وبقيادة العم عادل يهتفون باسمي ” حسن الأول .. حسن الأول ” ، خرجت إليهم بوجه متهلل ليحملوني على أكتافهم وتدق طبول الفرح و يبدأ الاحتفال ، توزع السيدات – صديقات أمي – الشربات وزجاجات المياه الغازية على الحشد الكبير ، الفرحه يتقاسمها الجميع وصوت ضحكتي يصدح في القرية يهتك سكون الحزن الذي خيم على حياتي منذ وفاة أمي ، الأجواء مبهجة والفرحة مرسومة في قلبي قبل عيني ، وبينما الجميع منهمك في الاحتفال ، لم تمنعني حرارة الجو وغفلتي عن ارتداء حذائي من الجري كيلو مترات عديدة حيث التراب الملتهب يقسو على قدماي الضعيفة حتى وصلت إليهاجلست قرب قبر الحبيبة أسكب دموع الفرح.

ويا لروعة الشعور بحضرتها وأنا أخبرها بأعلى صوت فرح شجي وأنا ابتلع الدموع ” يا قمر ليلي و مهجة قلبي ونبض فؤادي يا أم حسن ، حسن أتى إليك وقد دق الفرح ولم تعرف البسمة وجهه منذ أن غابت بسمته وقمره إلا اليوم “

أكملت والدمع ينهمر مغادرا مقلتاي بشوق يسيل على رحاب وجنتي وبصوت مبحوح

” أمي أنا أفي بالوعد ” ، ” أمي حسن ابنك حصل على المركز الأول بين أقرانه ” ” أمي سأصبح طبيبا كما كنت تحلمين ” ، لم تكن هناك إجابة لكن شعرت كأن روحها احتضنتني ولم يحضر في ذهني سوى وجهها النقي وكل المرات التي عدت فيها من المدرسة وتفتح لي أحضانها الناعمة كل المرات التي ضحكت فيها بوداعة مبهجة عندما كنتُ أتسلل خلسه من فراشي في الليل لأرتطم بجسدها وأختبىء في أحضانها أستحضر الشعور بكل كياني ليربت على قلبي الآن ويواسيني في أكثر لحظه يعصف بي الشوق إليها ، كنت أبتسم لكني لم أستطع أن أمنع دموعي الملوبة قرونا في أجفاني من السقوط ، مكثتُ بجانبها سويعات كثيرة كنت فيها في الطابق السابع من سماوات الفرح وحيدا مع دمعتي مع خيوط الحنين.بدأت رحلة الحلم الحقيقي ، والتحقت بكلية الطب جامعة القاهرة ، ومنذ اللحظه الأولى التي وطأت قدماي فيها هذا الصرح عرفت السبيل إلى نفسي و أنني لهذا خلقت وأنني لم أكن لأستطيع أن أصبح شيئا آخر غير الذي أنا عليه الآن ،


انشغلت بدراستي ومنذ أول محاضرة تمكنت من لفت الأنظار بأسئلتي التي كان يثني غليها أساتذتي ويشيدون بعمقها وتميزها عن باقي زملائي

ومع نهاية السنه الأولى استطعت أن أكون نجما ساطعا بين أقراني واسماً يجمع حوله التفوق والاحترام والحب بإشادة أساتذتي وزملائي .

كنت أذهب إلى الجامعه محاولا أن لا ألتفت إلى السخريات المؤلمة وإيماءات الفتيات التي تشير جميعها إلى ملابسي الرثة القديمة وشعري المجعد وحقيبتي المهترئة الممتلئة بالثقوب وأسمع دائما عبارة ” حسن الدحيح منكب على دراسته فليس لديه وقت ليهتم بمظهره” والتي تنتهي بضحكات تتعالى تمزق أذناي وتعتصر قلبي لكن رغم ذلك ابتسامتي الواثقة لم تكن لتبرح شفتاي أبدا ، كنت أقول في نفسي مقولة “سيوران ” لن تصل إلى الاكتمال الذاتي إن لم تجرب الإهانة لأقصى حدوأزيد صبري زادا بالوصية ” الوعد يا حسن ” فيدفعني ذلك للاستمرار فأنا هنا لأحقق حلما كبيرا وأصدق وعدا موكلا به لا يجب أن يشغلني عنه شيئا.كنت أوازن بين عملي ودراستي ، رغم توسلات العم عادل لي لأترك هذا العمل الذي لم يعد مناسبا لي إلى جانب احتمالية استقطاعه من وقت الدراسة على أن أحصل على أجرتي اليومية دون مقابل ، لكنني جابهته برفض تام واصرار على أن أكمل ما بدأته وأن لا أحصل على قرش واحد لم أبذل في سبيله نفسي ، لكن فقط مع تخفيض يوم العطلة الي يومين في الأسبوع فيتسنى لي مذاكرة محاضراتي بالاضافة إلى توفير وقت للوظيفة التي تمكنتُ من الحصول عليها على الشبكة العنكبوتية وهي الترجمه استغلالا لاتقاني اللكنة الأجنبية وبراعتي فيها طوال سنوات دراستي ، وكانت أجرتي جنبا إلى معاش أبي بالاضافة لما أتقاضاه من موقع الترجمة كاف ليجعلني ميسور الحال .بمرور الوقت والسنوات أصبحت شغوفا بالمجال أكثر ومساعدة المرضى وما من شيء يثلج صدري ويقر عيني بقدر دعوة مريض لي عرفت أنني أمتهن مهنة النبلاء وأمتلك إرث الإنسانيةحتى جاء يوم التتويج اليوم المنتظر الحادي عشر من ديسمبر لعام ألفين وأربعه ، عانقت البسمة فضاء روحي وأضاءت السعادة سماء قلبي وأنا أسمع اسمي ينادى في حفل التخرج تكريما لحصولي على مرتبة الشرف الأولى ، تسلمت الشهادة وقرأتها ” تشهد كلية الطب جامعة القاهرة أن الطالب حسن علي أحمد الجارحي قد حصل على بكالوريوس الطب والجراحه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف ” أمسكت الشهادة وسجدت مجهشا بالبكاء المتسرب طويلا في أوردة الروح ” اللهم لك الحمد ، الحمد لله منجز الوعد وموفيه وليس فوق عطائه عطاء اللهم لك الحمد يااااارب ” .قبلت وثيقة التخرج بانتشاء وفرح يبهج كينونتي كنت أتكلم معها ، نعم أتحدث إلى شهادتي وأقبلها بكل حبق السعادة وأركض كالطفل المشاكس بفرحة ماجنة وأقذف قبعتي في الهواء وترقص دمعاتي مثل قطرات الندى وأصدح بأعلى صوتي ” أنتِ الوعد أنتِ الحُلم ” .صعدت المسرح لألقي كلمة الطالب المتفوق تراقصت دمعاتي وأنا أمشط الحضور وأستوقف العابرين باحثا عنها عبرت لجبين الحلم أبحث عن وجهها عن وجه أملي عن قمر الليل الحنون .


هطل الدمع الكثيف وانا أهدي شهادتي للحاضرة الغائبة لمن كنت لها الأمل الذي راودها فحلمت أن تراني في مثل هذا اليوم لمن ضحت لتنير طريقي وقطعت علي وعدا أن أكون في قمة المرتجى رأيت طيفها يترائى لي على مد البصر تضحك من كل قلبها أوشك أن أتكيء عليها لأغفو في سعادة وحبور لا أدري يا أمي شيء وقر في قلبي يخبرني أنك هنا .توجهتُ إلى العم عادل – الذي كان يصفق لي بكل فخر وكأن النجاح له وباسمه-

أقبل يده هذا الرجل الذي احتضنني و دعمني وأحبني من صميم قلبه هذا الرجل الذي بسط على ذراعي الكسيرة ذراعيه ومد نحو يداي الممتده يديه فجاور روحي ، كان قميص يوسف الذي ألقي على قلبي فانتشله من قاع ظلمته .وضعت قلمي لأرتشف قليلا من الشاي ، وأنا جالس خلف مكتبي الوثير لا أصدق أنه قد مر عشرون عاما على رحيل أمي وعلى ما شهدته حياتي هذا الإرث الذي أكتبه اليوم ، نظرت إلى شرفة المستشفى ” مستشفى الوعد ” هذا الصرح الذي شيدته في قريتي وخصصته لعلاج الفقراء بالمجان ، ورنوت بأعلى إلى سماء الليل الحالكة أبحث عن قمري ، ما زلت أنظر إليه لأرى انعكاس وجهك الصبوح يا قمرُ ، لكنني أراها اليوم بشكل مغايرتتكاثف الغيوم الليلة، فتحجب جمال السماء تحت ظلها الأسود ، من بعيد أرى نصف كرة القمر تشتعل، تضوي من بعيد على البساط الأسود تتناوب الغيوم على اخفاء القمر تحت ستارها واحدة تلو الأخرى ودقيقة خلف دقيقة. فيبدو للناظر في الوهلة الأولى أن ضوء القمر خافت يشيح بضوئه إلى الفضاء البعيد، ولكنه في الواقع يقبع هناك حيث هو ولكن تغطيه الغيوم فقط ليس إلا


هذا المشهد كان حياتي وتلك الغيوم كانت غمامة اليأس اللعينة التي أعمت عيني عن ضوء الأمل يوم حاورت القدر وغشتني الظلمة من كل جانب فأيقنت أن وجودي كان سرابا مفعما .

لم أكن أعرف من أنا ، لم أكن أدري أن العناية الإلهية تسيرني ، منذ وضعتني أمي فكنتُ حسناً وسيرني لأكون طبيبا جُبلت على الإحسان ، منذ أن فقدت أبي الذي لم أره فغرس في روحي رجلاً في عمر الصبا

منذ أن جعلني فقيرا واضطررت للعمل في تكسير الحجارة فعلمتُ بعد ذلك أني كنت أكسر يأسي وأحطم خوفي وأهشم جدار عجزي .

منذ أن ابتليت بفقد أغلى ما لدي فعلمني الصبر وجرعني المسؤولية وأعانني على وفاء العهد

منذ أن رحم الله بحالي فبعث لي طرفا أتشبث به ويدا تشدد على يدي فكان العم عادل لأعيد النظر في هذه الدنيا . لم أكن أدري أن هذا كله تهيئة لأكون ما أنا عليه اليوم .وضعت يدي في جيب ردائي الأبيض لأخرج صورة تجمع زوجتي وابنتي

زوجتي يمنى ، الطبيبة التي اجتمعت بها في هذه المهنة ووجدت في عينيها طيفا لأمي ذاك الشيء الذي لم أستطع أن أمر به وأمضي قدما دون أن ألتفت فاجتمعنا على الوعد .

وابنتي ضحى ، تمتلك ضحكة هي أجمل ما في الحياة ، وجدت بين طيات اسمها وعد الله لي

ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى "


نظرت إلى ساعة معصمي فعلمت أني قد تأخرت ، فأنا على موعد مؤتمر طبي في ألمانيا لتجربة أول علاج فعال لمرض السرطان ، هذا اللعين الذي فتك بقمري لن يعد هاجسا بعد اليوم .حسن هيا ستتأخر على موعد الطائرة

أنا قادم في الحال يا يمنى .

لكن قبل أن أترك قلمي

أدير ساعة الحياة اليوم لأكتب إرثي ليكون آخر ما سأخطه في كتابي ، نحن الضائعين المغيبين نمضي في تلك الحياة هائمين على وجوهنا نغفل لماذا خلقنا وماذا علينا أن نفعل ، نحن المشتتين الساخطين على أحوالنا وأقدرانا الباحثين عن أشلاء السعادة التي تناثرت تحت سواد الظلام

إنك إن تغتنم لحظة تدرك فيها أنك لم تخلق سدى في هذا العالم ، وتخمد صوت يأسك الذي يخبرك أنك خواء وتخلع غمامة الدجى التي تغشى عينيك ، فتفقدك أسبابك ودوافعك التي كانت تجعلك منتصبا وقت الضجر ، و تفقدك إيمانك بالأشياء التي طالما أجزمت أنها تستحق المعافرة والمحاولة ، إنك إن تعي أنك هنا على هذه الأرض وفي هذا الوقت تحديدا لأجل هدف معين ومهمة محددة ، ستدرك أخيرا عبثية أوهامك ، وستؤمن أنه يوجد أكثر من هذا الخواء بالخارج، أنه ثَم شيء وراء ستار الحزن ذاك يستحق المجازفة والعناء ، ثمة شيء يستحق لتجد الطريق إليك – إلى نفسك – لتعرف من تكون !ولا أجد عبارة أجدر من مقولة عمر طاهر ” المرء إذا عرف الطريق هانت المشقة ” ،لك شيء في هذا العالم فقم له !أترككم لأكمل طريق الوعد الذي بدأته

وأنا على وعدك ما استطعت يا أمي الإمضاء : د. حسن الجارحي


خلود نادر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة