أتحدث في هذه المقالة من منظور تجربتي الشخصية بعد مشاهدتي مسلسل مدرسة الروابي للبنات الذي عُرِض مؤخرًا على شبكة نيتفليكس.
يقول أندريه تاركوفسكي في كتابه "النحت في الزمن" عندما يُقال القليل من كل شيء عن موضوع ما ، فإنه لا يزال بإمكانك التفكير في المزيد لقوله. فبالنهاية ما الذي يمكن أن يعنيه الموضوع للجمهور عندما لا يشاركون المؤلف/ المخرج البؤس والفرح في استحضاره الصورة والمشهد إلى هذا الوجود؟ "
كل عمل فني هو بالأصل عمل ينبع من الواقع وليس موازيًا له، ولا يُشترط أن يكون اقتباسًا عن مجتمعٍ ما أو ممثلًا لثقافة ما إذا كان صانع العمل ينتمي لذلك المجتمع أو لتلك الثقافة. هذا العمل هو أردني الصنع بامتياز من فكرة وسيناريو وإنتاج وإخراج وكوادر تمثيلية قديرة وصاعدة. يأتي العمل ضمن انتاجات شبكة نيتفليكس مينا لعام ٢٠٢١ ويقع في ست حلقات تتتبع بشكل خطي ومتقاطع حكاية ست طالبات يتبادلن الأدوار في أحد الصفوف الدراسية في مدرسة ثانوية للبنات تضم الكثير من القوانين والقواعد التي تضبط فئة عمرية حرجة يواجهها جيل الزمن المعاصر من فتيات وفتيان، ألا وهي فترة المراهقة والانتقال العمري بكل صعوباته وتكتلاته ومشاعره إلى البلوغ والنضوج.
استطاعت المخرجة تيما الشوملي أن تكسر الأبعاد الزمانية والمكانية لعرض الفكرة وأن تَلِجَ بعدسة مبدعة إلى شخصيات المسلسل بإتقان وتظهر لنا كل ما نراه من تصرفات وأفعال لتلك الفتيات على وجه الخصوص باستخدام صيغة المتكلم "أنا" التي نسمعها من فم الفتيات أنفسهن، وصممت بفنيّة مطلقة أسلوب عرض شمولي يأخذنا برحلة إلى دواخل الفتيات باستخدام صيغة الغائب "هي" وعرّفتنا على عناصر تكوينهن وشخصياتهن من أفكار ومشاعر وأسرار لا تتشاركنها مع أقرب الأشخاص إليهن مثل الأهل والصديقات.
استطاعت المخرجة تيما الشوملي أن تكسر الأبعاد الزمانية والمكانية لعرض الفكرة وأن تَلِجَ بعدسة مبدعة إلى شخصيات المسلسل بإتقان
يعرض المسلسل عدة قضايا مهمة في الحياة التربوية المدرسية والعائلية والتي إن قصّر فيها جانب تدهور الآخر بدرجاتٍ متباينة كما يحصل في قصة مدرسة الروابي للبنات والتي ذكرتني لوهلة بمدينة عمورية التي اخترعها عبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا في رواية عالم بلا خرائط لتكون المدينة الخيالية التي سيستعرضون فيها كل الأحداث دون الإشارة إلى مدينة محددة عن سواها، وهنا نحن أمام مبنى مدرسة الروابي للبنات، المدرسة المُتخيَّلة التي اخترعتها تيما الشوملي وفريق العمل لتعبّر عن أي مدرسة في العالم أو لنقول في وطننا العربي، وهذا يعني أن كل موقف أو حدث يمثل الكثير من الحالات التي نعيشها و كل شخصية تشكل شريحة من المجتمع إما قد عايشناها أو قابلناها. من بين أهم القضايا التي طرحها المسلسل هي قضية التنمر والتي كان لها الحصة الأكبر من أضواء الأهمية وقد تناولها المسلسل من عدة جهات وهي كما يلي:
- تنمر الطالبات على بعضهن البعض من خلال عدة معادلات ظالمة ما بين القوي والضعيف، والمهيمن والخاضع، والمتحكم والتابع، وسنتعرف على كل هذه المواقف التنمرية التبادلية التي مارستها الفتيات الواحدة ضد الأخرى بشكل تسلسلي وسلس ينتقل بالمشاهدين من تعاطف إلى آخر بشكل عقلاني وحقيقي بعيد عن انفعالية الشعور أو التحيّز لفتاة دون عن الأخرى. نحن أمام ليان ومريم ورانيا ونوف ورقية ودينا اللواتي ستذوق كل واحدة منهن من كأس تنمر الأخرى بشكل أو بآخر.
- تنمر الطالبات على المعلمات دون استثناء استهزاءهن وبشكلهن وطريقة كلامهن أو مشيتهن للدرجة التي يتبادلن فيها النكات المضحكة حولهن من صور وتقليد وشتائم وانتقاص من خلال مجموعات الواتس اب او وسائل التواصل الاجتماعي
- تنمر بعض الأهالي على بناتهن والانتقاص من شخصياتهن وكيانهن كما سيحدث مع رقية لاحقًا
- وأخيرًا التنمر الذي قد يمارسه نظام مدرسي تعليمي بحق الطلبة من أجل الحصول على حصانة المحسوبية وتسلق المناصب حتى ولو على حساب الأخلاق وضياع القيم.
هنا نحن أمام مبنى مدرسة الروابي للبنات، المدرسة المُتخيَّلة التي اخترعتها تيما الشوملي وفريق العمل لتعبّر عن أي مدرسة في العالم أو لنقول في وطننا العربي، وهذا يعني أن كل موقف أو حدث يمثل الكثير من الحالات التي نعيشها و كل شخصية تشكل شريحة من المجتمع إما قد عايشناها أو قابلناها.
إلى أي مدى نستطيع الاستعانة باستشارة نفسية تسهم في علاج جروحنا وتعمل على التئامها؟
كما ناقش المسلسل مجموعة من القضايا الأسرية من أبعادٍ كثيرة تبدأ بغياب الحوار العائلي بين الأهل والأبناء وتستمر بالعنف الأسري بأشكاله الجسدية والمعنوية وتنتهي بجرائم الشرف في كثير من الأوقات. وفي ظل تطور وسائل التواصل الاجتماعي فإن الرقابة التي من شأنها حماية أبناءنا وأنشطتهم تغيب مع غياب الحوار الحقيقي والصحي بين أفراد العائلة مما يسبب الكثير من الخسائر الإنسانية والنفسية لهذا الجيل الناشىء وبالنهاية إلقاء اللوم عليهم عند ارتكابهم الأخطاء، فتتلاشى الثقة ويكثر العقاب.
لربما يستغرب المشاهد الغربي المشاهد الحادة في التعبير عن قضايا هؤلاء الفتيات والتي لعبت فيها الدراما دورًا كبيرًا مما سبب النقد اللاذع لهذا المسلسل في الوسط المجتمعي العربي، ولكن في بعض الأحيان نحتاج إلى تكثيف المشهدية وتتابعها للتأثير في الرأي حول قضايا عامة نعيشها في كل يوم ولا نلتفت إليها باسم الخوف من العيب أو الفضيحة، ولربما أخافني قليلا -كمُشاهدة- الدرجة التي وصلت فيها إحدى الشخصيات إلى السميّة والأذى بسبب رغبة متعطشة للانتقام واستعادة ما تبقى لها من حياة، فأخذت رغبتها في القضاء على الجميع تتزايد دون أن تلتفت إلى أي أحد أو تضع بحسبانها أن ما تقوم به سيؤدي إلى دمار الآخرين رغم التنبيهات التي وصلتها من صديقاتها. وعلى الطرف الآخر من صراع التنمر فإننا نتتبع كيف قامت إحدى المتنمرات وهي ليان بموقف جمعي نسائي تدعم فيه فتاة أخرى وهي نوف عندما تعرضت لمحاولة تحرش، فلم تقف مكتوفة الأيدي واستجمعت قوتها وتصدت للرجل القذر الذي لم يفرق بين فتاة شبه ساترة لجسدها وامرأة ساترة جسدها كليا ولم يخرج من مكانه إلا بعد أن طبع في وجههن غمزة ترصد وإصرار على فعله قبل أن يغادر. مما يمنحنا كجمهور فسحة لتأمل المشكلات التي تتعرض لها الفتيات في المجتمع بشكل عام ومشترك.
إلى أي مدى نستطيع الاستعانة باستشارة نفسية تسهم في علاج جروحنا وتعمل على التئامها؟
وهنا يخرج أمامنا تساؤل: إلى أي مدى نستطيع الاستعانة باستشارة نفسية تسهم في علاج جروحنا وتعمل على التئامها؟ يقدم المسلسل بعض استراتيجيات العلاج النفسي مثل التدوين اليومي والتي تساعد الشخص على إعادة تقييم تصرفاته ومشاعره -بعد تفريغها على الأوراق- من منظور آخر، ولكن حتى في هذا الطريقة العلاجية السلوكية نتعرض لانتهاك الخصوصية ويتحول فعلنا العلاجي إلى جهد مضني إما بتبرير كل ما قمنا بتدوينه للآخرين أو نتكوم على أنفسنا خوفا من الانتقاد الجارح لحالتنا الصحية كما حصل مع مريم.
ولكن تقنية الصمت التي استخدمتها تيما الشوملي خلقت وعيًا متزايدًا، إذا يشعر الجمهور أن الموسيقى التصويرية تختفي من تحتهم
أما في الحديث عن توظيف تقنيات الحوار والصمت فقد كان الحوار حاضرًا وبمكانه وباستخدام العبارات المناسبة للحدث. ولكن تقنية الصمت التي استخدمتها تيما الشوملي خلقت وعيًا متزايدًا، إذا يشعر الجمهور أن الموسيقى التصويرية تختفي من تحتهم ، مما يجبرهم على التركيز على اللحظة ومراقبة الشخصيات، وفي أوقات أخرى يمكن أن يؤدي الصمت إلى إعطاء مستوى إضافي من "الواقعية" للتسلسلات الخاصة بالشخصيات، كالتركيز على الأفعال الوحشية ، مثل حوادث السيارات أو الطلقات النارية أو مشاهد العنف والضرب مما يجعلها أكثر حدة ، وتبقى هذه التسلسلات معلقة في الهواء لفترة أطول مع استمرار الصدى للجمهور في جميع أنحاء مشهد أو المسلسل بأكمله. وعندما تكون الشخصيات وحدها فإننا ندخل في عزلة الشخصية في المشهد بينما نختبر السكون؛ وأخيرًا فإن إزالة أصوات الشخصيات من صرخات اليأس أو الغضب يمكن أن يجعلهم على ما يبدو أكثر عاطفية وعمقًا فيشعر الجمهور بفراغ الحزن مع الشخصيات ، مما يخلق مشهدًا أكثر أهمية وتعد هذه أداة قوية يمكن لأي مخرج استخدامها لإحداث تأثير مماثل في أفلامه ومسلسلاته. أما ما يميز النقلات بين الصمت والحوار فكانت قائمة من أغاني الراب العربية التي حضرت حسب المزاج والحالة للأحداث والشخصيات وهذه لفتة ذكية وفارقة من المخرجة تيما الشوملي في الإشارة إلى هذا النوع الغنائي الذي يصدح بالثورة الفكرية ونقل الرسائل المجتمعية المهمة مثل دعسوقة - لو كل الناس قالت الحقيقة، وأعدني أني سأحبني، ومناكير، وإيمتا نجوزك يما، وغيرها.
ما ما يميز النقلات بين الصمت والحوار فكانت قائمة من أغاني الراب العربية التي حضرت حسب المزاج والحالة للأحداث والشخصيات وهذه لفتة ذكية وفارقة من المخرجة تيما الشوملي في الإشارة إلى هذا النوع الغنائي الذي يصدح بالثورة الفكرية ونقل الرسائل المجتمعية المهمة
في نهاية المسلسل، لن تستطيع أن تتفلت من الشعور بالألم والمسؤولية حول كل ما حدث كأنك حاضرٌ هناك ولم يكن وسعك إلا أن تتفرج على سلاسل البنية المجتمعية الحقيقية وهي تنهار أمامك بسبب الكثير من القضايا التي تحدثت عنها سابقا هنا.. لك أن تتخيل أنك ستخرج من هذه التجربة الدرامية وأنت تضع لكل شخصية مبررات لأفعالها وتتعاطف معها وتحلم بإصلاح خرابها الذي حكم فيه قانون الغاب المبني على الأحقاد التي لم يلتفت أحد لإنقاذها..
وهكذا تكون مدرسة الروابي للبنات المدرسة المتخيلة للحكايات الحقيقية في العالم،
ويتبقى لي أن أشد على يد صديقتي الصحافية سامية عايش التي بدأت وأنهت مقالها الذي كتبته حول مسلسل مدرسة الروابي للبنات في موقع CNN بالعربية "يا رب تيما الشوملي تعمل كمان مسلسلات"..
وهي دعوة مفتوحة لكل المخرجات العربيات أن ينهضن بمحتوى حقيقي يتحدث بصوت القضية الصامتة التي يخشاها الجميع.
كتبت زَيْنَب القيسي
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
المسلسل انا مشفتوش، بس سمعت ملخصه من علي صفحة اسمها فيلم في الخامسينه، تعني سريعة بالمصري مثل شاي الخمسينه، مسلسل عجبني حكايته واحزنني نهايته واتعاطفت مع المتنمرين في آخر حلقة لاني حسيت انها كمان ضحية في بيت اهلها فخلقوا فيها احذيه الناس ولو بالكدب
شاهدت بعض لقطات المسلسل، كانت كافية لاحكم عليه، سأشعر بالملل عندما اشاهده، لا يستحق المشاهدة، السبب بسيط، من المقبول والمستساغ استخدام افكار من مسلسلات واعمال اخرى لكن ان يتم سرقة حوارات كاملة وبالنص! وايضاً بلغتها الاصلية! لا هيك كتير! الحوارات المستخدمة في المسلسل سمعناها في اعمال غربية فما الذي سيدفعني لمشاهدتها على اساس انها عمل أردني؟
ملاحظة ثانية، هل حقاً هذا ما يحصل داخل مدارسنا؟ نعم هناك تنمر وهناك لا ما مبالاة وهناك حالات نفسية وهناك اقليات منبوذة بسبب توجهاتها وميولها الثقافية والجنسية ولكن هل حقا ما شاهدناه في المسلسل يعكس الواقع في مدارسنا؟ وهنا اقصد الثقافة والحوار، الجواب الذي يعمله الجميع هو لا! لماذا اذا ساضطر لمشاهدة المسلسل؟ لا يوجد اي دافع!
تقييمي للعمل من ناحية فنية ان التصوير جيد واداء الممثلين غلبه التصنع وعدم الاتقان سوى ممثلة واحدة او ممثلتين وبشكل عام تقييمي للعمل انه رديء.