عندما يصبح الحجر الصحي أسلوب حياة، ماذا يمكن أن يحدث لنا في يومنا العادي؟؟ بعض من تأملاتي في ومضات.

قضيت جل وقتي في المنزل وتحديدًا في غرفة الجلوس حيث تقع طاولة مكتبي الذي أصبح محطة لعملي ومتابعة دروس أطفالي ودراستي. فكان يتناوب على طاولتي ضوء النهار وعتمة الليل وهي تعمل بدون راحة، فحملتْ معي جزءًا كبيرا من مهامي. وكان لي نصيب من المطبخ الذي تشاركت فيه المساحة بين الوصفات وغسل الأطباق مع زوجي وأطفالي الصغار. لعبنا معًا.. مارسنا التأمل والتمارين الرياضية.. قرأنا الكتب والقصص.. لعبنا بالألعاب اللوحية والأحجيات.. وشاهدنا الأفلام والكثير من البرامج الوثائقية، وبالطبع أفلام الكرتون المدهشة.

لعبنا بالألعاب اللوحية والأحجيات.. وشاهدنا الأفلام والكثير من البرامج الوثائقية، وبالطبع أفلام الكرتون المدهشة.



وفي وقت خلوتي مع نفسي، كتبت يوميات وتحدثت بلغة سحرية وأدبية عن هموم الآخرين بتدوينات يومية قيّدتها على دفاتري ومنصة الفيسبوك آنذاك. بالمناسبة، قاطعت الأخبار، واعتزلت سباق عدّ المصابين بفيروس كوفيد، لا بسبب اللامبالاة أو عدم الاكتراث بما يحدث حولي، ولكنني كنت بأمس الحاجة أنا وعائلتي الصغيرة للتماسك وبناء أسلوب حياة يُمكِنُنا مواجهة العالم من خلاله.

كنت بأمس الحاجة أنا وعائلتي الصغيرة للتماسك وبناء أسلوب حياة يُمكِنُنا مواجهة العالم من خلاله.


كانت التجربة مثرية جدًا، وغنية بالكثير من الإضافات على عمقها وقوتها، وعلى حزنها وألمها. كان الوقت سيد اللعبة (وأعني بمفردة اللعبة هذه التجربة البشرية الفريدة والغريبة من نوعها). فقد ظهر أمامنا كل ذلك الوقت الضائع بين عمليات التوصيل والسفر الداخلي من العمل إلى البيت وانتقالا من وإلى المدرسة، حتى . الوقت الذي نقضيه بين الأشياء أثناء ممارسة أعمالنا اليومية. الآن نحن في مكان واحد يجمعنا، ونمارس فيه كل أنشطتنا اليومية ونحن نقابل بعضنا وجهًا لوجه. ما علينا سوى أن نختار ركنًا مناسبًا للدراسة والعمل واجتماعات زووم التي لم ولن تنتهي على ما يبدو. إذ أصبحت كلمة (اجتماع) من مصطلحات الحياة العادية، والكل يُقدّر أهميتها، ومع ذلك كانت أصواتنا تتفلت في خلفية الاجتماع عندما يحين دور أحدنا للحديث، مما يوّلد مشهدًا دراميًا جديدًا من الفن اللإيحائي لأحد أفراد العائلة وهو يلوح ويفير ملامح وجهه وهو يتابع حديثه.


أما عن أجمل ما أخذته معي من هذه التجربة فهو حميمية الحياة والعائلة، وتلك الروابط التي خلقت مساحات جديدة مع أنفسنا في تحديات جمعية مشتركة لا نتوه فيها وحدنا بل نجد من يقف دعامة خلفنا كي لا نسقط. كانت رحلتي نحو عالمية الصداقة والتواصل مع الآخرين بنقرة زر أسهل من اختراع الانترنت نفسه، لأننا الآن نستخدم منصاته وتقنياته الحديثة بإقبال ومن غير خوف.

كانت رحلتي نحو عالمية الصداقة والتواصل مع الآخرين بنقرة زر أسهل من اختراع الانترنت نفسه، لأننا الآن نستخدم منصاته وتقنياته الحديثة بإقبال ومن غير خوف.


صحيح أننا نمارس الحياة في هذه الأيام خارج الحجر الصحي، إلا أنني كثيرا ما أشتاق للسكينة التي شعرتها وأنا أخوض أيام الحظر بعيدًا عن ضوضاء العالم. كانت شرفتي بمثابة الفم الذي يلثم مذاق الأشياء ويستشعر حلاوتها بلذة المشتهي، وكان البحر مداد الروح الذي أنتشي به كلما انفصلت عن نفسي ومحيطي.. وكانت الموسيقى رعشة المهموم الذي وجد ملاذه في الصوت والتقاء الألحان.


وعلى صعيد الصحة النفسية والجسدية فخطواتي التي اتخذتها كانت في ممارسة الرياضة، واليوغا، والتأمل، والقراءة/ وبالتأكيد الصلاة- الرابط الروحاني بين العبد وربه خالق الحياة وملاذ الضياع عن انسانيتنا. كل ذلك منحني هدوءً وتماسكًا متينًا بيني وبين روحي وجسدي. في بعض الأوقات ننسى كم يبلغ جسدنا من العمر إلى أن ننتكس، وقد تأكدت بشكل عمليٍ واعٍ أن هذا الجسد الذي يحملنا يحتاج حقًا للغذاء الذي ينهض به بالطاقة والعزيمة. وكذا العقل نغذّيه بالقراءة والمعرفة والتفكير الناقد، والروح نغذّيها بالصلاة والعلاقة الذاتية الآسرة مع الله. كل ذلك سيدفع بإنسانيتك نحو الأمام لتدرك أن لك دورًا مهمًا في بناء حضارة الانسانية كشخص منتج أكثر منك مستهلك. وبذلك تحقق بهذا التوازن صحتك التي تسعى لتطويرها.

كل ذلك سيدفع بإنسانيتك نحو الأمام لتدرك أن لك دورًا مهمًا في بناء حضارة الانسانية كشخص منتج أكثر منك مستهلك. وبذلك تحقق بهذا التوازن صحتك التي تسعى لتطويرها.


أنا بطبعي كائنة اجتماعية، ولكنني أدركت أنني أحب الهدوء أكثر مع نفسي. صحيح أنني كنت أحيد عن خططي اليومية ومهماتي وتدهورت أيام كثيرة من جداول خططي اليومية، لكنني كنت أرجع، وأجد خريطة عودتي تنتظرني. وفي كل عودة كنت أطرح المزيد من الأسئلة، إذ أصبَحتْ كل الموضوعات أمامي قابلة للمناقشة والجدل والاستقصاء. ومن جهة أخرى موحشة أنهم عندما أعلنوا خطط الفتح العام في الحياة تحت ما يسمى بالعودة إلى الطبيعي - والذي لن يكون مثلما كان قبلًا-، أخذ مني الأمر وقتًا طويلًا قبل أن أخرج في أول مشوار لي على عكس الأطفال الذين كانوا يتوقون لهذا الانفتاح مع الطبيعة والعالم الخارجي. وحتى هذه اللحظة ما زلتُ أخرج بتخبط وبدون وجهة. أبدو مثل طفلة تخطو تحركاتها الأولى بتردد وخوف. ومع كل ذلك التيه، أعتقد أنني أنتصر في النهاية فأتماهى مع العالم الخارجي مع تصاعد توقي للجلوس إلى طاولتي، ذلك المرام الذي يكبر كغيمة شتاء متلبدة مع كل خروج من المنزل.

صحيح أنني كنت أحيد عن خططي اليومية ومهماتي وتدهورت أيام كثيرة من جداول خططي اليومية، لكنني كنت أرجع، وأجد خريطة عودتي تنتظرني. وفي كل عودة كنت أطرح المزيد من الأسئلة، إذ أصبَحتْ كل الموضوعات أمامي قابلة للمناقشة والجدل والاستقصاء.



لأكثر من منتصف فترة الحجر كنت بعيدة عن وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا منصة الفيس بوك وذلك لأبعاده النفسية الكثيرة. ولم أكن أقيّد يومياتي لا بالصور ولا الفيديوهات أو الكتابة في تلك الفترة. كنت في حالة سكون ورتابة على وتيرة واحدة، وبعد إدراك حقيقة الحجر، فعّلتُ حساباتي من جديد ولفترة مؤقتة نشرت خلالها مجموعة من تدوينات الحجر الصحي التي ذكرتها لكم سابقًا. لكنني لم أحتمل، فخرجت من هذه العوالم الافتراضية لأحظى بديتوكس وسائل تواصل اجتماعي لما يزيد عن ثمانية أشهر حتى هذه اللحظة.

فالوقت الأثمن -بالنسبة لي- هو ذلك الذي أقضيه مع من أحب ويحبني ويهمني. كل تلك الخبرات والتجارب ساعدتني في الكثير من عمليات الكشف الإنساني الذي نفتقده، فكان لا بد من الحفاظ عليه بعيدا عن عوالم السوشيال ميديا.


أما بالحديث عن الحاجة للأشياء حولنا فهي لا تنتهي، وكان لا بد من الاستغناء عن مجموعة منها كي أمضي بدون قلق الانتظار. ولكن على الصعيد العملي، احتجنا - كغيرنا- إلى مواد التعقيم والكِمامات ومواد التنظيف والسلع الغذائية التي اكتفينا بها ضمن معدلات مقبولة وتناسب احتياجاتنا الحقيقية بدون زيادة أو مبالغة. ربما لأن المكان يحكم كذلك. فأنا اعتبر نفسي وعائلتي من المحظوظين جدًا في هذا العالم لأننا خضنا هذه التجربة الجمعية المؤلمة بأقل الخسائر مقارنة بغيرنا ممن عانوا خلال هذه الجائحة بشكل موجع وغير منصف. وأصعب تلك اللحظات حقا كانت تلك المكالمات التي كنا نتواصل فيها مع أهلنا في البلاد لنطمئن على حالهم في هذا الهم المشترك، لكننا كنا نسمع ما لا يرضينا ولا يسرنا. فلقد كانت الشدة والرخاء مقسومان في الأرض بين البشر بشكل غير عادل لأسباب بيئية واجتماعية واقتصادية وصحية وسياسية والجميع مكتوفي الأيدي. وفي الوقت الذي كان يعد الآخرون وفياتهم وفقداهم في هذه الحرب البيولوجية، كان لا بد لي أن أحصي النعم وأدعو الله أن لا يبتليني أنا وغيري بفقد جديد. لذا اكتفيت بأقل القليل، ولم أكن سأطلب غير دوام الصحة علي وعلى عائلتي وعلى البشرية جمعاء.

كانت الشدة والرخاء مقسومان في الأرض بين البشر بشكل غير عادل لأسباب بيئية واجتماعية واقتصادية وصحية وسياسية والجميع مكتوفي الأيدي. وفي الوقت الذي كان يعد الآخرون وفياتهم وفقداهم في هذه الحرب البيولوجية، كان لا بد لي أن أحصي النعم وأدعو الله أن لا يبتليني أنا وغيري بفقد جديد. لذا اكتفيت بأقل القليل، ولم أكن سأطلب غير دوام الصحة علي وعلى عائلتي وعلى البشرية جمعاء.



أعلم أننا بعد هذه الفترة نحتاج لمئات أضعاف مدة الحجر الصحي كي نتعافى مما أصابنا، ومع ذلك لن ننسى أنه يجب علينا أن نتقدم وإن طال ظلام الطريق، وأن نشّق أنفاقنا الخاصة بكل أداة متاحة حتى يظهر الضوء الذي نحلم به، وننسى معه كل ألمٍ عشناه..


يدي على قلوبكم يا أصدقائي، ويد الله على يدي..


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

ملهمة صديقتي وكلمات مليئة بمشاعر مختلطة.. بحفظ الله ورعايته

إقرأ المزيد من تدوينات ريشة وكرّاسة - زَيْنَب القيسي

تدوينات ذات صلة