"هذه القصّة مُتّخيّلة لغايات ضبط تردُّد العلاقات الاجتماعية، وجميع الشخصيات الواردة فيها حقيقية جدًا لكنني أقحمتهن هذا اليوم في حبكتي القصصية.


"هذه التدوينة تجمع الحس الإبداعي مع الهواجس اليومية التي قد تنتابنا"



"هذه القصّة مُتّخيّلة لغايات ضبط تردُّد العلاقات الاجتماعية، وجميع الشخصيات الواردة فيها حقيقية جدًا لكنني أقحمتهن هذا اليوم في حبكتي القصصية -التي نصحني صديق لي أن أنتشلها من الخيال انتشالًا- كي أنجو من هروب اللغة. "



هذا وبعد أن استطعتُ، وأخيرًا، أن أحظى بتصريح حصري لزيارة للجارات اللواتي تصفهم صديقتي صبحة علقم دائمًا في سردياتها، جهّزت نفسي وفتحت دولاب ملابسي كي أرتدي ما يليق بمثل هذه الجَمعة الحميمية، فأنا لا أريد لِعين أم محمود أن تتصيد لي وتهمس لأم إلياس غامزة "شوفي "زينب" كيف لابسة!! ولا تقولي بتشتغل بالجامعة"، ولا أريد أن تسألني أم عيسى عن جدّتي التي تحترف الخياطة والتدبير وسرد قصص التهجير فأضطر لأن أخبرها عن أحداثٍ لم أشهدها قط للمرة المئة لأنها تنسى كثيرًا، وسأختار عطرًا بسيطًا خفيفًا كي لا تسعل أم يحيى المصابة بحساسية زهر اللوز والكالونيا والياسمين والجاردينيا- من أي رائحة منبعثة مني.


لكنني قبل أن أشتبك مع تسريحة التجميل ومساحيق ودولاب الملابس أنظر في المرآة وأبتسم، ويعجبني شكلي كثيرًا. فلا يوجد أجمل من يوم إثنين أرتدي فيه منامتي المرقطة باللونين الأزرق البحري والأبيض والتي أرتاح بها، معتمرة توربان أنيق لأخفي شعري المتعب من التسريح، وشبشب أنيق.


فأقرر أن أنسى تصريح الزيارة وأجمع جاراتي اللواتي يقضين وقتهن وحدهن كما أنا في أيام الحجر الصحي عبر مكالمة فيديو، ونتحدث قليلًا قبل أن تصاب إحدانا بالهلع أكثر من ذلك وهي معتكفة على كنبة اتخذتها عرينًا لأفكارها الشرسة.. هؤلاء الجارات اللواتي لم ألتقي بهن منذ سنوات كثيرة، ومنهن اللواتي لم ألتقيهن أبدًا، والأهم أنهن لا يعرفن بعضهن جيّدا كذلك.


يصل كل امرأة منهن رابط مكالمة فيديو برسالة قصيرة "اعملي قهوتك وسيبي كل شي من ايدك وتعي!" تتجمع النساء واحدة تلو الأخرى وتظهرن في مربعات صغيرة على شاشات الهواتف، والأجهزة اللوحية والأجهزة المحمولة. حديث الجارات صعب للغاية في هذه المكالمة التي تتجمع فيها رؤوس الحكمة والجنون وبمعنى آخر "ولا وحدة بتعطي مجال للتانية تحكي" ولكنهن كنّ صامتات.


جلسة اليوم كثيفة بالحنين وحكايات المدن المعزولة، والموت الذي غّيب الأحباب والأصدقاء، وحفلات الزفاف التي لم تحضرها أي منا. تتأمل الواحدة منا شكل الأخرى كيف أضحى بعد خمسة عشر عاماً، نساء ثلاثينيات يقف السيف على حد ألسنتهن، وتضيع الكلمات على عتبة اللغة مع أول نقاش معهن. في الذاكرة لكل واحدة منهن اسما مستعارا تُعرف به، وهو اسمٌ حركي يعبر عن شخصياتنا النزقة الملبدّة بالحب والكبرياء، والمعجونة برياح الصب والتجارب المستنزفة.


في هذه المكالمة العجيبة لا تقّص علينا رشا قصصها الغاشمة بالعزة والأنفة الممتزجة بالتمرد، وتبتسم بلهفة المنتظر، وقد أتعبها زائرُ ثقيل ليلة أمس. ولا تضحك هدى من فرط السخرية التي لاحقها بها القدر كما كانت تفعل بين كل محاضرة وأخرى، ترفع أكتافها من بين أنقاض لحظتها وتبتسم، وحليمة التي اعتادت الكتابة من خلف الدفاتر المسطّرة، تريد أن تصرخ بكل ما تؤمن به كما تفعل في الحزب الشيوعي ولكن الكلمات تتكاثف على لسانها كحبة مطر، ثم تذوب بالابتسامة.


وتلك بتول التي لم تسكت للحظة وهي تقول هذا يجوز ولا يجوز، ويمكننا أن نقوم بالأمر (ومين أساسًا اللي بدو يمنعنا)، تتصفح ملامحنا بصمت معقبة عليها بابتسامتها الهادئة والخجلة. ,وأماني (وآه منها أكثر من أي أحد) التي ما انفكّت تحلم وترتب الحكايات على مقاسات السماء وانحناءاتها بلا حدود، فيتحقق الحلم مرتين، مرة بشغف وأخرى بألم، وهي الأخرى تضحك ملء قلبها ولا تتفوه بكلمة. ولا يدري أحد سواي عن خطوط قهوتها الجافة مع روجها الأحمر على فنجانها.


وأنا (زَيْنَبُ) بمنامتي وتورباني وأغاني التسعينات وفنجان قهوتي الذي أتكئ عليه في عزلتي أكثر من ثلاث مرات يوميا أتابع تتابع الأفكار في عيونهن وهي تتطاير كشرار لا يورث سوى الخوف لمن يراه. بقينا هكذا قرابة الساعتين قبل أن تعود كل منا للانغماس في وهم الاشتياق لما نحن فيه، ولتعثرات الذاكرة التي تعود بكل وقاحة ولا تُرجع الوقت معها، يصدح صوت المذياع في الخلفية البحرية وهو يطلق صوتًا حميميًا كعناق وقاسيًا كالحياة التي أتينا منها:

" يا ريتك جارتي.. وساكنة بحارتي.. وعينيك مقابلي.. نورك مرايتي.. ومن عتم بردايتي اطلي تضحكيلي"..


تضحك المجنونات كالريح، تربكهن المنازل ويعلي صفيرهن العتبات وشقوق النوافذ والأبواب المواربة، وتبدأن بالرقص.


لكم أن تتخيلوا كيف تحوّلت شاشات مكالمة الفيديو الصغيرة من ركامٍ محمّل بالغياب والنحيب إلى إنحناءات موسيقية متناغمة. في مجمل لقاءاتهن يتطرقن إلى مناقشة موضوعات مختلفة، ولكنها لا تقف عند تبادل الأخبار، بل نراها تتسربل من بين خواصرهن كحكاية أو سيرة أصيلة تحبكها الصدف والمؤامرات والظلال بحرفية شاعرية، لكنه ليس الشعر الذي يجمعهن أو الموسيقى، إنما هو البوح.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ريشة وكرّاسة - زَيْنَب القيسي

تدوينات ذات صلة