دعوة إلى التأمل، في غمرة الانشغال وضيق الأوقات ..!
في زاوية الشارع المتعامِدة مع رصيفِ المُشاة، تختبئ أوراقُ الشجر في كانون.. كنتُ أرقبُها وهي تهربُ في خفة، وتتعثر إلى أن تستقرّ في تلك المرافئ، وكأنّها تأوي من مُناكِفة البرد إلى سَند الرصيف.. قِبالتها تمامًا يستقرُ كرسيٌّ خشبي عمره يزيد على عشرةِ أعوام تعرفُ ذلك من الحِنّاء التي تكسو مسانِده.. ومن خلفه مِتران من أرضٍ مليئة بالحياة؛ حيث أول فوجٍ من عُشبٍ غضٍّ طري ينحنِي ما مالَت عليه الريح كصوفيّ في حضرة صلاته..
أنصافُ مُكالماتٍ تُسمع من المارّة، وأبواقُ السياراتِ لا يعلو عليها إلا صوتُ سيارة الغاز.. كنتُ أسير وأنا أقرأ عيونَ الناس ومشيتهَم، وأحاول تخيل ما تحت "كماماتهم"، صاحِب الدُّكانِ يتمسّك بالجريدة ويشد عليها قبضته كأنها آخر ما تبقى له من الماضي.. وصوتُ الموسيقى يُسمع من دُكان جاره، أنظر في بلاطاتِ الرصيف وأحاول عدّها فأحرصٌ ألا أدوس على الخط الفاصل بينها.. وأعودُ إلى لوحةِ فسيفساء تجمعُ شرفات عمّان، لا أدري كيفَ يحل على الأبنية كل هذا الجمال حين يوحّدها لون المطر..!
وإن شئتَ أن ترفع بصرك ستلاقيك الغيوم في أبهى طلّة، أجمعُ صورتها في عيني وجهًا لإنسان أو ربما جناحيّ طائر فإذا حزِرتُ هيئتها غادرت، تارة تتجمعُ ويكأنها تحكي سرًا فتسدُ على الشمس دربها نحونا.. وأخرى تتناثر ضاحِكة فتأذنُ لأيدي الشمس بمصافحةِ الأرض، ولا تزالُ على هذا الحال تتجمع وتتفرق فيبدو شعاع النور لي لغةً، ويحلُ على بدني سيّدُ المعاطف.. وتتشكلُ ظلاله على الأشياء فنًا لا يُضاهى، خفيفًا مُرتحلًا يدورُ مع الشمس ويغيب إذا غابت.
صباحًا حين تحرر جفنيك من بعضيهما وتأذنُ للشمس أن تشرق فيكَ ابتداءً، ستلحظُ عينك الصورة تتلوها الصورة.. وكأنها شريط "نيجاتف" لكاميرا قديمة، لا تدع تلك الصور تتخزن فيها من دون انتباهةٍ منك، سيبدو لك السقف متجرّدا لكنه لن يكون ذلك لو أردت.. صافِح نافذتك من بُكرة يومك، وتأمل، شجرة الجيران.. ستبدو لك أغصانًا بلا روح، لكنها ليست كذلك.. انسيابُ المعجون على الفرشاة سيبدو لك حركة لا تعني شيئًا، لكنها دهشة الفيزياء..! المرآةُ وفرشاةُ الشعر والساعةُ المشدودة على مِعصمك ليست مُجرد أدوات.. القهوة الثائرة في ركوتك ليست فقط بُن.. مقبضُ الباب الذي يعانق الذاهب والغادي ليس أداة لفتح الباب وحسب.. الزرعُ على درجِ الجارة ليس للزينة فقط..
ما أكثر الصور التي تتشكَّل في عينك وتتحمضُ في ذاكرتك.. جرّب أن تلحظها، جرّب أن تُناظرها بعينيّ مُتأمِل، ولا تتذرّع بالانشغال وتستدعي عذر اللاوقتِ في حضرة الرؤية، فأنت في كلا الحالين تَرى.. ولكن شتّان بين ما تَرى وما يُرى.. أدعوكَ أن تعيش يومًا واحدًا بعينينِ تليقانِ بالتفاصيل، وتشعرانِ بالأشياء حين يرتمي عليها النور.. وتفهمانِ لماذا تولدُ الفِكرة من رحم النظرة.. وتحمدان وتشكران ربَّ النور..
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات