حاجة هذا الجيل تكمن في التفهم والتقبل أكثر من أصدار الأوامر والإملاء عليه بما يفعله.

لا نحتاج لعدسة مكبرة حتى ندرك أن الفساد قد اتخذ لنفسه موقعاً استراتيجياً وبدأ يتخلل تدريجياً بين أبناء هذه الأمة. جيل بعد جيل ونحن نتذمر من انحطاط الأجيال وعدم استقامتهم على الطريق الصحيح. وفي كل مرة يتكرر ذكر الأسباب ذاتها ويقع اللوم على الأشخاص ذاتهم (الأفلام ، الروايات ، المسلسلات ، وفيما بعد أخذت اللائحة تطول لتشمل وسائل التواصل الاجتماعي) وأنا على يقين تام أن هذه الأمور جميعها هي أحد الأسباب، وقد يكون لها الدور الأكبر. ولكن لنتبادل الأدوار لبضعة دقائق وليتواضع الكبار قليلاً وينزلوا من قلاعهم ليخوضوا المعارك التي يشهدها هذا الجيل ومن ثمة يُصدروا عليه الحكم بالذنب أو البراءة.

إن كنتَ تنظر لجيل اليوم بعينيك هاتين اللتين هدتهما التجارب والخبرات والأحداث؛ فنضج فهمهما وتوسعت مداركهما وأدركتا أي الطريقين أفضل وتغربلت لديهما مفاهيم الخطأ والصواب، فمن البديهي أن ترى أن هذا الجيل فاسد و مهمل، ولكنك ان حصلت على أعين جديدة لشاب أو مراهق أو طفل لم يبلغ الحلم ولم تعصف به الحياة بعد، ولم يجد من يأخذ بيده نحو الصواب، وكل ما يعرفه هو ما يراه في وسائل التواصل الاجتماعي والذي يخبره الجميع أن عليه الابتعاد عنها ولم يكلف أحد نفسه أن يخبره بالسبب سوى أنها ضياع للوقت، ولكنه لا يجد ما يفعله في وقته وهو لا يريد أن يصبح نسخة أخرى من عالم الكبار ومطالبهم لأنها لا تتماشى مع متطلبات عصره (وله الحق في ذلك) فهو الآن يخوض أقوى معركة بين ما يُراد منه وبين ما يريده هو. عندها فقط ستعيد التفكير في إطلاق الأحكام عليه. فإن كان الجهاد سابقاً يقتصر على حفظ الدين، الآن يجب أن يجاهد المرء منّا ليحافظ على دينه وأهدافه واهتماماته وشخصيته ويجاهد لأن يجد طريقة يعبر فيها عن نفسه وتتماشى مع ما نشأ وتربى عليه ويجاهد لأن يقنع الآخرين أنه ليس سيء وإنما هو مشوش ومرتبك وبوصلته لم تجد وجهتها المناسبة بعد.


"أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ..."


نحن بنو البشر تماماً كما الصفحة البيضاء نبدأ حياتنا على الفطرة السليمة، لا يوجد بيننا من يبدأ رحلته بطباع سيئة أو يقرر أن يسلك طريق الضلال ولا يوجد من يولد ملاك معصوم عن الخطأ ويعرف نفسه منذ اليوم الأول ويجد الطريق الصحيح ليخوضه، ما يُملأ على صفحاتنا البيضاء من أفكار وتصرفات وقناعات له مصدر واحد وهو ( عالم الكبار )، ولا نختص هنا بالحديث عن الوالدين أو العائلة لأن من المعروف أن الطفل لن يتعامل معهم فقط خلال حياته وإنما هناك المعلم والجار والصديق والطبيب وصاحب المتجر أو شخص قد تجمعه الصدفة مع الطفل في أحد الأماكن، كما وتحتل فئة المؤثرين في المجتمع ( سواء سلباً أو إيجاباً ) أصحاب ملايين المشاهدات أكبر مكان في وقتنا الحالي. ومن هنا تحديداَ تأتي كلمة (كُلُّكُمْ) في قوله عليه الصلاة والسلام :" أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ..." فإذا أدركنا أن الطفل منذ بدأ حياته لا يتعلم إلا ما يراه وما أوصلناه نحن له من خلال كلماتنا وأفعالنا معه أو أمامه، سنعلم لماذا نحن مسؤولون ومن هي رعيتنا. وذلك لأن أول ما يبحث عنه الشخص في اول حياته ويستمر بذلك حتى أخرها هو القدوة، سواء كانت حسنة أو سيئة لن يختلف الأمر، لن يكتشف الطفل أن ما يتخذه هو قدوة سيئة أو أن هذا الشخص الكبير يفعل أمراً خاطئاً، لذلك إذا لم يجد هذا الطفل القدوة الحسنة في صغره فلن يكون ذنبه أنه وقع في الخطأ فمفهوم الأمر الخاطئ لم يتكون عنده بعد. إلى هذه النقطة نحن متفقون، فالجميع يعرف أن الأبناء يحتاجون للتربية والنصح، ولكن نحن نختلف في الكيفية...


وأصبَحْتُ في جيل الفساد ولم يكن لِيَصْلُحَ هذا الجيل والدهر فاسد - عبد الغفار الأخرس

بعض الأهالي يسلكون في التربية طريقين (وأحلاهما مر)، إما الكبت والقبض على عقل الأبناء وتشكيله كما يريدون. وإما الإهمال المتعمد أو غير المتعمد والذي يشمل تربية الأبناء على (السليقة) أي كما تربى الأباء ومن قبلهم، وهذا النوع يقوم على تشكيل شخصية الأبناء لتصبح نسخة مصغرة عما يريده الآباء وما يعرفونه ويعرفون أنه صحيح، و الاهتمام بمظهر الأبناء أمام المجتمع وما يتضمنه من توبيخات وأوامر بالتزام الصمت يتلقاها الأبناء في كل مرة يحاولون التعبير عن ذاتهم وما يريدونه. ووضعهم في قوالب العادات والتقاليد التي لا تملك سوى إلغاء شخصياتهم وجعلهم نسخة لا تجد فيها أدنى اختلاف عن أي شخص آخر وكأنهم يحاولون استنساخ الشخصية ذاتها في كل مرة (طفل مهذب لا يتكلم أمام الكبار، الأول على صفه، يفعل ما يُطلب منه دون نقاش)، وغيرها من القوانين التي نشكل الأبناء عليها دون إعادة النظر فيها وإن كانت بالفعل تنم عن شخص صالح أو فقط شخص مستنسخ، الأمر أشبه أن نربي أبنائنا على طريقة برنامج (ما يطلبه الجمهور) مع إهمال الحاجات العاطفية والفكرية والنفسية للأبناء وأنهم يمتلكون عقلاً ولهم الحق في التصرف على طبيعتهم في كثير من الاحيان.

المعظم ممن يتبعون هذه الطرق يكون مبدأهم (هذا ما وجدنا عليه آباءنا وهذا وما تربينا عليه). وهذا المبدأ لا يبلغ أي مبلغ من الصحة والمنطق وذلك لعدة أسباب: أن قِدَم الشيء لا يعني بالضرورة صحته فإن كنت قد تربيت بهذه الطريقة لا يعني أنها صحيحة لأنه في زمن ما كان هناك من تربى على عبادة أصنام لا تسمن ولا تغني من جوع وكان هذا ما وجدوا عليه آبائهم ولولا أن هؤلاء القوم منحوا أنفسهم فرصةً لاستيعاب أمور جديدة وسمحوا للتغير أن يدخل حياتهم لكان في بيتك الآن صنم تتوسل إليه ألا يُنزل غضبه على العائلة لأن ابنك قد قضم يده المصنوعة من التمر. السبب الثاني هو أن العالم يتغير في غمضة عين ليضم سلسلة لا تنتهي من الاختراعات والتطورات، فما نشأ عليه الجيل السابق لم يكن يضم (الفيسبوك وتيك توك اليوتيوب ونيتفليكس)، فليس ذنب هذا الجيل أنهم ولدوا في هذا الزمن الذي يضم هذا الكم الهائل من المعرفة والانفتاح. لكن جدول الحياة اليومية الذي كان يشمل الذهاب إلى المدرسة ثم الدراسة وبعدها تناول الغذاء وختاماً بالخلود إلى النوم لن يتقبله يَافِع يعرف تماماً ما يحتويه هذا العالم من أمور وهي أكثر بكثير من الحصول على درجات عالية والقيام بما يسمح به الأهل فقط، عاجلاً أم آجلاً سيخرج الطفل من تحت جناحك ليفعل ما يحلو له، فهذا الجيل يحتاج أكثر من أن تصدر اليه الأوامر وأن يُمنع من الخروج وقضاء الوقت في اكتشاف الحياة خوفاً على حياته وأن يُمنع من تجربة أي هواية خوفاً على درجاته المدرسية، أجنحة الأبناء لا يمكن قصها، يمكن أن تهدأ لبعض الوقت ولكنها لن تصمد كثيراً أمام الرغبة في التحليق، وعندها إذا حلّقت فوق مكان خاطئ لن يكون هذا ذنب الأبناء وحدهم ولا ذنب التطور وحده وإنما ذنبنا جميعا، فهم إن أذنبوا مرة بانحلالهم فنحن أذنبنا مرتين، الأولى عندما أحكمنا إقفال عقولنا لكي لا نستوعب ونفهم ما يحتاجه هذا الجيل حتى نعرف الطريقة المناسبة للأخذ بيده نحو الطريق الصحيح. والثانية عندما منحنا أنفسنا الحق لإصدار الأحكام دون أن نُزيل الغشاوة عن أعيننا والأقفال عن قلوبنا وعقولنا.


رغبة هذا الجيل في التعبير عن نفسه وإيجاد اهتماماته الخاصة وتكوين أفكاره وعيش الحياة التي يشاهدها من خلف الشاشات هي ما يدفعه لفعل أمور قد تبدو للكبار مندفعة أو خاطئة أو حتى تافهة، واتباعه نهج الغرب وطريق الفساد والتقليد الأعمى ما هو إلا ردة فعل طبيعية على الكبت والإهمال العاطفي والفكري الذي يتعرض له منذ طفولته. معاملة الأطفال على أنهم بلا عقول وبلا احتياجات لن تجدي نفعاً، ونعتهم بأنهم جيل فاسد لا يعني بالضرورة أن الجيل الذي سبقهم كان صالح، هو كان جيل مطيع فحسب! وبقي مطيعاً لأنه لم يشهد هذا التطور وليس لأنه كان راغباً بالطاعة. لذلك إذا كنت ترى أن جيل اليوم (مش نافع) فلتأخذ بيده بدلاً من إحباطه، ولتبدأ قبلها بإصلاح نفسك من أجل إصلاح الآخرين، ونحن نقتبس هذا المبدأ من قوله تعالى: " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [الرعد: 11] فإن كنت تنتظر من أبنائك أن يرفعوا أعينهم عن الهاتف فعليك أن تقدم لهم البديل ليستغلوا به أوقاتهم ويسدوا به جوع أنفسهم، وإن كان في هذا العالم من يفسد هذا الجيل فمسؤوليتنا تكمن في إحداث التوازن وإيجاد من يصلحه ولكن بطريقة تتناسب مع تفكيره وتطلعاته بعيدة كل البعد عن الكبت، وقبل أن نضع أسلحتنا في وجه المخطئ وحده، لا بد من توجيهها على المسببات أيضا.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جدا رائعة، شكرا

إقرأ المزيد من تدوينات سلمى عديلي

تدوينات ذات صلة