ست أدري كيف سيوصف أبناء الجيل الحالي هذا الزمن بعد أربعون عاما. مؤكد سوف يصفونه بالزمن الجميل كما وصف جيلنا ماضيننا بالزمن الجميل.
عندما أتذكر كيف كان العالم حوالي منذ أربعون عاماً عندما كنت شاباً يافعا في مقتبل العمر، وأقارنه بالعالم حولي الآن أتعجب كيف استطاع جيلي الذي وُلد في زمن لم تكن فيه أدوات للتواصل والمعرفة , إلا ما أتيح بين يديه وحواليه من ناس وكتب وناس آنذاك.
وكبر هذا الجيل ، وكلما كَبُر زادت حوله رويدا رويدا وسائل المعرفة والتواصل والمتعة والتسلية , حتي أصبحنا علي ما نعيش عليه الآن ونراه من تجمع كل الوسائل في وسيلة واحدة وهي التليفون المحمول , والذي تطور تطورا مذهلا فأصبح العالم كله فيه وراء الشاشة الصغيرة نتفرج عليه أينما وكيفما أردنا دون أن نشعر بحلاوة وعمق هذا العالم المرئي واللا محسوس.
منذ أربعون عاما كانت الكلمة المسموعة والمقروءة والمكتوبة تعني الكثير. وكان لقاء الناس والتحدث اليهم هو حدود المعرفة والتعارف. وكانت أكبر مخاوفنا من الأمراض هو مرض البلهارسيا , فلم يكن حتي الفيروس الكبدي معروفا آنذاك. أما الطفيليات والتي كانت منتشرة بكثرة فكنا نتغلب عليها بمختلف أنواع "الشربة" والأدوية البسيطة.
كانت رحلة إلي ملاهي ومتاحف القاهرة أو شاطئ الاسكندرية هي كل ما نحلم به ونتمناه , ونسعد به أيما سعادة. كانت عادة قراءة جريدة الأهرام يوم الجمعة ممتعة جدا ووجبة ثقافية لذيذة تشكل للعقل والوجدان. كنا لا نجلس علي القهاوي الا اذا احتجنا لبعض من الراحة والتقاط الأنفاس خاصة في المدن. كانت فلسفة ووظيفة القهاوي في المدن هي مكان لاستراحة قصيرة بعد أو أثناء مشوار طويل , والاستمتاع بفكرة أنك وسط الناس ولو كنت غريبا عنهم.كنا نستمع إلي الراديو ووجباته الثقافية المختلفة عندما نقلب بين محطاته , نأخذ من كل محطة مذاقها الخاص واللذيذ. كنت استمع لبرامج القرآن الكريم والشرق الأوسط وصوت العرب والبرنامج العام.
وعندما كنت أصل وبعناء شديد إلي اذاعة الباي باي سي كنت اشعر اني سافرت إلي لندن لمجرد سماع الأخبار من هذه المحطة علي صوت مذيعيها بلكنتهم المميزة. كنت من هواة المراسلة وتبادل الخواطر والقصص والاشعار , فكنت الجأ إلي برنامج "من هواة المراسلة" بإذاعة صوت العرب والتي كانت تذيع اسماء وعناوين من هواة المراسلة في مصر والدول العربية. وبالفعل ساعدني هذا البرنامج في تكوين صداقات عديدة داخل وخارج مصر.كان زمانا بسيطا جدا رغم أننا لم نكن نظن وقتها أنه بسيطا وجميلا. ولكن كنا نعيشه براحة نفسية اكبر كثيرا مما نشعر به تجاه العصر الذي يعيشه جيلي الآن.
والآن وفي نهاية ٢٠٢٠ فقد تغير العالم تغيرا جذريا. فقد تغيرت طرق التواصل والاستمتاع والمعرفة والصداقة والأحلام , وحتي الحب والكره والزواج والطلاق والسفر وأسباب الأمراض. ظل جيلي يلهث وراء التطور التدريجي في تغيرات الزمن التي صاحبت تطور التكنولوجيا. ظللنا نشاهد التطورات ونتمني ونحلم ونحاول اللحاق بها حتي انقطعت الأنفاس. لم يستطع معظمنا أن يحقق أحلامه في الحياة رغم مشاعر الرضا التي أراها في عيون الكثير من جيلي. الرضا بالمقسوم والحنين إلي الماضي الذي لقبناه بالزمن الجميل رغم شقاوة الزمن الحاضر والمثير.
جيل الزمن الجميل هو الجيل الذي وُلد في عصر اللاتكنولوجيا المتطورة ويعيش الآن وسط التكنولوجيا المذهلة. قد يُحسد هذا الجيل علي تذوقه لكل الوجبات عبر مراحل التطور ولكني اعتقد أن أبناء الجيل نفسه يعيشون علي ذكريات وطعم الزمن الجميل. ببساطة لأنهم يشعرون بأنهم ينتمون أكثر لجيل الزمن الجميل. ورغم أننا نعيش هذا الزمن بكل ما فيه , إلا أنه قد يكون دور المشاهد أو الفاعل , تفاعل وجوبي وليس عن رغبة دفينة.
جيل الزمن الجميل هو جيل التناقض الذي اجتمعت فيه كل الصفات وعكسها , صفات الماضي والحاضر القريب والبعيد والمستقبل القريب الذي لا يعلم هل يعيشه أم لا.لست أدري كيف سيوصف أبناء الجيل الحالي هذا الزمن بعد أربعون عاما. مؤكد سوف يصفونه بالزمن الجميل كما وصف جيلنا ماضيننا بالزمن الجميل.
جَمّل الله الزمن لكل من يعيش فيه ...
خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
كاتب وأديب وعضو أتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات