لماذا يضفي علينا التقدم بالعمر وشحات من الحزن والكآبة ؟!

في عالم الكبار يوجد نوع معين من الزائرين، يقلقون راحتهم ويعكرون صفو مزاجهم لأنهم يأتون بلا ميعاد ولا هدف محدد، وقد يطيلوا البقاء، وهذا النوع من الزائرين مزعج ومخيف إلى حد أن شغلهم الشاغل يصبح البحث عن طرق للتخلص من زيارتهم التي تكون أشبه بالغيمة السوداء لا تجلب إلا البؤس.


خلال ما تابعته في حياتي أدركت أن الحزن الشديد والاكتئاب سمات تخص الكبار، بمعنى أنها لا تتواجد في عقل طفل صغير - إلا في حالات نادرة - كل ما يفكر به كيف يقنع والدته بأن تتركه يلعب بألعاب الفيديو لمدة سبع ساعات إضافية، ولا في عقل طفلة كل ما تعرفه عن الخذلان هو ذهاب بائع المثلجات دون أن تستطيع اللحاق به. لن يخطر في بالهم أن هناك ما هو أسوء من ذلك كما لم يخطر لنا أن هنالك أسوء من العقاب الذي نُجبر فيه على نسخ الدرس خمس مرات بدلاً من ثلاث -وربما لا يوجد فعلاً – . ولا زلنا نبحث عن السبب الذي يجعل عالم الكبار يطغى عليه السواد والبرود. حتى إذا ما قابلنا شخصية مرحة تغني وتقفز طوال الوقت وتستمتع بالأشياء البسيطة حولها وتبكي على أمور أكثر بساطة وصفناها أنها تمتلك قلب أوعقل طفل، ونجد الكثير من العبارات التي تقول : "حافظ على الطفل داخلك " بمعنى ألا تجعل عالم الكبار يغمسك بالحزن.


ما سبب هذه السمات التي يكتسبها الفرد منّا عندما يتقدم به العمر ؟! أهي مثل شهادة القيادة التي نحصل عليها بعد خضوعنا لعدة اختبارات وبذلك نكون نجحنا في قيادة أنفسنا في هذا العالم ؟ أم أنها مؤهلات نمتلكها لنستطيع مواصلة العيش؟ ربما هي مجرد وشحات يلطخنا بها الزمن لكي نتأهل لأداء الأختبار ومن ثم نحصل على شهادة عضوية في حزب الكبار البائسين. لماذا نجد أنفسنا فجأة نتحدث عن مصطلحات لم نسمع بها من قبل ولم نتعلمها بالمدارس كالخذلان والإحباط والاكتئاب والضغط النفسي والتفكير المفرط، هذا في حال كنّا لانزال قادرين على الكلام؛ فالبعض عندما يدخل هذه الحلقة يفقد القدرة على الكلام والتعبير ويكتفي بالصمت، لأن عقله يبدأ باستلام المهمة ولا داعي لأكثر من متحدث واحد. لماذا نكتشف فجأة أننا لا نمتلك الثقة بأنفسنا ونتّعرف على مفاهيم أخرى كحب واحترام الذات، ألا يحب الكبار أنفسهم ؟! لماذا نرى جماعات من الكبار يقتنصون كل فرصة لشراء كتاب عن التنمية البشرية ولحضور جلسات العلاج النفسي ؟ لماذا يجري الكبار خلف السعادة كجريهم خلف الخبز ؟! ولماذا لم نكن نشعر أننا تعساء قبل قيامنا بهذه الرحلة؟ أهو ثمن ندفعه جراء تقدمنا بضعة سنوات ؟


ربما مشكلة الكبار أنهم لا يملكون سبب معين للإجابة عن هذه الأسئلة، لا يجدون سبب واحد ليشتموه وينهالوا عليه ضرباً جراء الغيمة السوداء التي سببها فوق رؤوسهم وأسفل أعينهم. مما يزيدهم حيرة وضياع فوق حزنهم وتشتتهم. ولأنهم لا يملكون سبباً لبكائهم -كانسكاب عصيرهم المفضل أو توبيخ أحد الأشخاص لهم- فإنهم يستمرون بالبكاء فترات أطول من المعتاد أو يمتنعون عنه نهائياً. فيجلس الواحد منهم في زاويته المظلمة وحيداً لأنه لا يملك من يتحدث إليه، وحائراً لأنه لا يعرف عمّا يتحدث من الأساس، وشاعراً بالذنب لأن لا وقت لديه للجلوس في زوايا مظلمة؛ فعالم الكبار يغلب عليه أيضاً الجري خلف المسؤوليات والواجبات والأشغال.


أيكون ما نكتسبه في هذه المراحل من وعي وإدراك لما يدور حولنا وإتساع مدى رؤيتنا لنبصر أموراً لم نكن قد أبصرناها في حياتنا الأولى هو السبب ؟ ربما الأرض هي ذات الأرض ولكن من تطأ أقدامهم عليها هم من تغيروا. بالطبع ! أليس الوعي هو القائد لحلقات التفكير الفارغة التي يدخل الواحد بها ويستحال أن يخرج منها دون إصابات ؟! ألم يقل المتنبي أن "ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِه، وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ"! وهل يوجد مكان لتشاهد به ذكريات الماضي وتعيد التفكير بها، وتسمح لنفسك بإلقاء نظرة على توقعات المستقبل وتبدأ القلق منها، دون أن تنسى الخوض في مشكلات الحاضر سوى العقل؟

ولكن دعونا لا نحمل العقل الذنب بكامله؛ فتخيل أن تستيقظ فجأة لتجد أنك أصبحت مسؤولاً عن نفسك ومشاعرك واختياراتك وتوجهاتك وعاداتك ودراستك وعملك وخططك ووضعك الاجتماعي والاقتصادي ومن ثمة تتوسع الحلقة لتجد أنك أصبحت مسؤولاً عن آخرين معك وعن مشكلاتهم أيضاً؛ لا يجب أن نلوم عقلنا على التفكير المفرط بل يجب أن نشكره لأنه لم ينفجر بعد. سيتوجب على عقلك أن يتعلم خلال مدة قصيرة كيف يتعامل مع الرفض والخذلان والألم والإحباط وكيف يواجه المجتمع وكيف يكوّن أفكاره وأهدافه ومن ثمة يبدأ بالدفاع عنها لأنه بالطبع أصبح مقيم رسمي في عالم الكبار مما يعني أنه سيتعرض لكثير من الصدمات واللحظات السيئة ولن يتردد الأشخاص في إيذائه لأنه قد أصبح شخص كبير وقوي لا يجب أن يتأثر ويبكي كالأطفال. يجب على عقلك أن يتعلم كيف يعمل تحت كل هذه الضغوط ولا ينكسر. سيدرك أن عليه أن يختار طريقه بعناية لأنه إذا وجد الطريق مغطى بالوحل سيكون وحده مسؤولاً عن تنظيف نفسه.


وبعد ذلك كله تجد أن عقل الكبار لم يبقى به متسع للتفكير بالمتعة ولا يملك الوقت ليبكي على اللبن المسكوب وقد ينسى أن يمارس هواياته ويقوم بما يجعله سعيد وفي معظم الأحوال لن يكون قد تبقى لديه الكثير من الرفاق ليلعب معهم، وإن حصل تجدهم يخبرونه أنهم كبروا على اللعب، وهنا يكتشف المرء أنه أصبح تعيساً وتبدأ صورته أمام نفسه بالتلطخ وتكون حينها نقطة البداية في سباق الجري نحو كتب جلب السعادة ولقاء مدربين مختصين وأطباء يساعدونه على فهم دماغه لأنه يدرك أنه أصبح أعقد مما يمكنه استيعابه، وقد يلجأ الفرد للجلوس مع عقله على أنفراد وتبادل الحديث معه كطريقة لتسوية الأمور وهنا تأتي أهمية جلسات اليوغا والتأمل لأن الفرد لا يتذكر أن يلتقط أنفاسه إلا في هذه الأوقات.


وبعد المرور بكل ما سبق... تجد أنك حصلت على الإقامة الرسمية في عالم الكبار.

أهلاً بك.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

فقدنا براءة الطفولة وتلاشت كل اللوان من عالمنا بسبب بعض الصعاب التي نظرنا اليها و كانها كبيرة برغم انها لا تستحق ذلك و الفكرة التي غرزت في عقولنا ان عالم الكبار صعب هي من جعلتنا ننظر الى اصغر المشاكل على انها كبيرة و مع تضخيم الامور نكون فتحنا الباب من اجل دخول اللون الاسود

إقرأ المزيد من تدوينات سلمى عديلي

تدوينات ذات صلة