"الثقافة العلمية هي روح المجتمع الذي يشكل وجدانه ومزاجه وثقافته ويجدد حضارته"



إذا كان بقاء الإنسان علي قيد الحياة يتوقف علي إتاحة الغذاء والماء والهواء، فإن بقاء عقل ووجدان الإنسان يتوقف علي إتاحة الثقافة والمعرفة والآداب والفنون. وتبسيط العلوم، والصحافة العلمية والاعلام العلمي، هي ثلاث مصطلحات نسمعهم من حين لآخر في مجتمعنا العربي ولكن وللأسف علي استحياء رغم الأهمية القصوى لهم في خلق بيئة مجتمعية ثقافية تعتمد علي العلم والمعرفة. والعكس تماما في الدول الغربية والشرق الأقصى التي تهتم اهتمام بالغ بنشر وتمكين الثقافة العلمية في كل فئات المجتمع.

وإذا كان انتاج العلوم يحتاج إلى أهل الاختصاص من الباحثين في مختلف العلوم، إلا أنه يحتاج أيضا إلى إمكانات هائلة لكي يتحقق وينافس محليا ودوليا، سواء كانت امكانات معملية أو مادية أو بشرية أو فكرية. أما إنتاج المعرفة فيتعلق أكثر بالإمكانات الفكرية وتفردها وتميزها وعزمها على تحويل الإنتاج العلمي إلى إنتاج معرفي لغرض تثقيف الغير متخصصين في كل فروع العلوم. ولذلك فعلي كل باحث أن يكون منتجا للمعرفة فهو الوحيد القادر على تبسيط العلوم التي ينتجها بنفسه في معمله أو معامل الآخرين. ومن الممكن للغير متخصص علميا أن يقوم بدور الوسيط بين منتج المعرفة وهو الباحث إلى مستقبلها وهو المتلقي من الجمهور الراغب في التنوير. وعادة ما يكون هذا الوسيط من المتخصصين في الصحافة العلمية أو الاعلام العلمي.

ومن أكثر العقول انتاجا للمعرفة والثقافة هم الباحثون بـالجامعات ومراكز البحوث وذلك نتيجة لطبيعة عملهم، لأنهم يمتلكون أدوات البحث العلمي والمعرفة بكل أنواعها. فالباحث لا يشتغل بالعلم والبحث العلمي لنفسه أو حتي مؤسسته بل لخدمة مجتمعه ليس فقط من خلال اجراء البحوث داخل جدران معمله لإيجاد حلول للتحديات المجتمعية ولكن أيضا من خلال تحويل هذه البحوث إلي معرفة من خلال بهدف تحقيق رفاهية الإنسان. ولكن هل بالفعل يقوم كل باحث بتحويل انتاجه العلمي إلي انتاج معرفي. بالطبع لا، بالرغم من أن أحد أركان وظيفة الأستاذ الجامعي وكذلك الأستاذ الباحث في مراكز البحوث هو خدمة المجتمع والبيئة من خلال قطاع خدمة المجتمع الموجود بكل جامعة.

وهناك الكثير من الوسائل التي يستطيع الباحث (استاذ الجامعة) أن يحول انتاجه العلمي إلي معرفي، ليحقق من ناحية أحد مهامه الوظيفية، ومن ناحية أخري ليحقق التواصل المجتمعي وشعور المجتمع بقيمة البحث العلمي الذي يقوم به، وبقيمة دور الأستاذ الجامعي خارج أسوار جامعته وفي تثقيف عموم المجتمع من غير أهل الاختصاص. وفوق كل ذلك لإرضاء الذات كرسالة حياة، وارضاء الله سبحانه وتعالي حتي لا يقع تحت تهمة المقصر، خاصة أن الأستاذ عموما بما فيه أستاذ الجامعة من المفترض أن يكون قدوة ومرجعا للمعرفة.

ومن ضمن الوسائل التي يستطيع الأستاذ الجامعي المشاركة من خلالها في انتاج المعرفة هي:

· منافذ التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة باللغة العربية.

· انشاء قناة يوتيوب يبث فيها محاضراته المعرفية.

· النشر في المواقع الثقافية والعلمية المختلفة.

· انشاء مدونات لنشر الانتاج المعرفي.

· اصدار نشرات دورية أو المشاركة فيها.

· نشر تسجيلات صوتية علي وسائل الميديا المختلفة.

· المشاركة في الصالونات الثقافية والعلمية.

· المحاضرات العامة خارج اسوار الجامعة.

· المشاركة في الندوات العامة سواء بالتفاعل الحي أو الافتراضي.

· زيارات للمدارس أو الكليات المختلفة في غير تخصصه لإلقاء اضاءات معرفية في مجال تخصصه.

وهذه النقلة من المادة العلمية المتخصصة والجامدة إلي مادة معرفية ثقافية هو ما يُطلق عليه تبسيط العلوم لغير المتخصصين. وهو الأمر المهم جدا في تثقيف المجتمع ورفع المستوي المعرفي من قبل أهل الاختصاص أنفسهم. وهو الأمر الذي أعتبره شخصيا واجب ديني ووطني ومجتمعي، وهو وجوبي وليس رفاهية.

أما انتاج المعرفة نفسه فمن الممكن أن يكون من خلال تحويل الانتاج العلمي للأستاذ نفسه من أبحاث ورسائل علمية من الماجستير والدكتوراة التي يشرف عليها إلي معلومات عامة ينقلها بصورة مبسطة. ومن الممكن أيضا أن يكون من خلال قراءة الأبحاث العلمية الحديثة خاصة تلك المنشورة في الدوريات العلمية المرموقة ثم تلخيصها بأسلوب علمي بسيط يغلب عليه الطابع الثقافي المعرفي بنكهة علمية مشوقة. كما يمكن التعليق علي مؤتمرات أو ورش عمل وتحقيقها بلغة بسيطة وموجهة للقارئ الغير متخصص.

وما دفعني للحديث عن موضوع انتاج المعرفة هو أهميته القصوى لتثقيف المجتمع بمعرفة حقيقية ومصادر علمية موثوق منها، وبسبب وجود حالة تكاد تكون شبه عامة من التسطيح الثقافي (سواء كان متعمدا أو غير متعمد من جهات لا تهتم بمستقبل الوطن)، والتدني الأخلاقي لسلوك الشارع، وفي نفس الوقت لعزوف غالبية أساتذة الجامعات عن دورهم في التثقيف المعرفي للمجتمع. وهذا لا يمنع أن هناك حالات فردية كثيرة تأخذ علي عاتقها هذا الهدف النبيل، ولكن الغالبية غير مهتمة وقد يكون بعض منها غير مدرك لأهمية هذا الدور. وقد يكون بسبب الانشغال الشديد لأساتذة الجامعة في اعمال التدريس والامتحانات والكنترولات والجودة والبحث العلمي واللجان والمناقشات والاشراف العلمي وغيرها من المسئوليات الكثيرة الملقاة علي عاتق استاذ الجامعة.

ولكن حتي الأساتذة بمراكز البحوث الذين ليس لديهم أعباء تدريسية او اعمال كنترولات وامتحانات كما هو علي عاتق استاذ الجامعة، معظمهم أيضا لا يقوم بهذا الدور النبيل من تبسيط العلوم بصورة منهجية لتثقيف المجتمع علميا ومعرفيا. فهل يفسر ذلك أن المشتغلين بالبحث العلمي وانتاج المعرفة يظنون أن تبسيط العلوم وانتاج المعرفة هواية وليس عمل مهني!!. أو أنهم يظنون أنها تحتاج مهارات خاصة في الكتابة والتعبير وبالتالي لا يشارك في هذا الدور إلا من يمتلك تلك المهارات.

ومع أن تبسيط العلوم بالفعل يحتاج بعض المهارات إلا أنها مهارات بسيطة وممكن التدريب عليها واتقانها في وقت بسيط. فمن يستطيع أن يكتب بحث علمي رصين ويناقشه ويعرضه أمام المتخصصين ويكتب له ملخص عربي، لهو بقادر وبمهنية واحترافية ومنهجية عالية علي القيام بدوره في تبسيط العلوم والثقافة العلمية. فهناك فارق كبير بين الصحافة العلمية وتبسيط العلوم. صحيح الصحافة العلمية من المفترض أن تكون من ضمن أدوات تبسيط العلوم، إلا أن مُبسط العلوم ليس من الضرورة أن يمتلك كل أدوات الصحافة العلمية، والتي هي مهنة مستقلة يمتهنها في الأساس الاعلاميين الذين درسوا الاعلام العلمي أو العلميين الذين درسوا أساسيات الصحافة. وهناك بحث منشور لي منذ سنوات عن قضية الاعلام العلمي والمشتغلين بها وما لها وما عليها.

وما يثير التعجب لدي والعديد من التساؤلات الحميدة، هو اهتمام معظم اساتذة الجامعات بما يجري علي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من أحداث مختلفة والتفاعل معها بصورة يومية ولكن من منظور شخصي وليس مهني تخصصي. كما أني لاحظت أن مشاركات معظم أساتذة الجامعات مقصورة علي بوستات بسيطة من ادعية وحكم ومنشورات ليس من انتاجهم ومجهولة المصدر. فإذا كان الأستاذ الجامعي يجد بعضا من وقته الذي يقضيه علي وسائل التواصل الاجتماعية المختلفة، فلماذا لا يخصص جزء من هذا الوقت لنشر معلومة مبسطة بموجب تخصصه الدقيق ليشارك المجتمع بها في انتاج المعرفة بنفسه وليس مجرد نقل من مصادر مجهولة، وليكن ذلك بصورة يومية أو علي الأقل أسبوعية. فانا اعتبر الأستاذ الجامعي الذي لا يقوم بتقديم مادة معرفية من انتاجه العلمي مقصر في عمله ورسالته. وذلك لأن دور الأستاذ الجامعي لا يجب أن يكون مقصورا علي كونه ناقلا أو وسيطا للمعرفة، ولكن منتجا ومطورا لها اعتمادا علي علمه ومعرفته من خلال تخصصه هو وليس بالنقل فقط عن غيره ولا يعرفه.

وأنا شخصيا مؤمن جدا بأهمية دور الأستاذ الجامعي في انتاج المعرفة ونشر الثقافة العلمية في المجتمع، بل وأعتبر ذلك مهمة ورسالة علمية كبيرة، ًوصدقة جارية تنفع الناس، وزكاة عن العلم الذي ينتفع به. وفي سياق ذلك قمت بتأليف العديد من الكتب العلمية مثل وقت للبيع، الرصاصة الجينية، سفاري الي الجهاز المناعي بالإضافة إلي سلسلة من التأملات كان أولها تأملات في حياة القطط، تأملان في الابتلاءات في حياة الأنبياء، تأملات في فيروس كورونا، تأملات في الخلية، تأملات في الخلايا المناعية، تأملات بيولوجية في النفس، تأملات في النفس، وغيرها. كما أني قمت بنشر أكثر من ١٧٠ مقال علمي في تبسيط العلوم وباللغة العربية الشيقة في العديد من مواقع العربية في الثقافة العلمية. كانت موضوعات هذه المقالات ترجمة لما أقوم به من أبحاث علمية أو ابحاث منشورة كان لها صدي عالمي أو هجين بين هذا وذاك. كما قمت بالمشاركة في برنامج تبسيط العلوم وفي انشاء متحف العلوم بطنطا بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا. كما قمت وأقوم بإلقاء العديد من المحاضرات والندوات العامة في مختلف المؤسسات العلمية بمصر. وهناك خطة قريبة لزيارة المدارس. كما أني أنشأت قناة يوتيوب لنشر الانتاج العلمي والمعرفي لي ولغيري وبصورة مبسطة. كما أني خصصت صفحتي علي الفيسبوك لهذا الغرض، تتناول الجانب العلمي والمعرفي. كما أني دشنت صالونا ثقافيا علميا بصفة شهرية يضم نخبة من الباحثين والأدباء لخلق مساحة من التزاوج بين العلم والأدب.

وهناك العديد من الاقتراحات التي أري أن تنفيذها والتي قد تساعد بصورة قوية وسريعة في تحقيق دور أستاذ الجامعة في تبسيط العلوم وانتاج المعرفة.


· وضع برنامج تثقيفي ملزم لكل عضو هيئة تدريس في المجتمع المحيط وخاصة في المدارس لتثقيف الطلاب علميا معرفيا وكفرصة لتقديم القدوة في المجالات المختلفة. وهذا النظام معمول به في أمريكا وقد شاركت فيه أثناء عملي أستاذا هناك.

· تنظيم ما يسمي Day-Shadow لطلاب المدارس لقضاء يوم كامل في أحد معامل الأساتذة ومرافقته في المحاضرات وجميع أنشطة اليوم. والجدير بالذكر أن هذا النظام معمول به أيضا في أمريكا وقد شاركت فيه لمدة 10 سنوات أثناء عملي أستاذا هناك.

· إنشاء مكتب للثقافة العلمية في كل جامعة ومركز بحثي.

· تخصيص يوم كل أسبوع في كل كليات الجامعة والمدارس للثقافة العلمية والمعرفة.

· ملخص في كل رسالة علمية أو مشروع بلغة الثقافة العلمية والمعرفة.

· التعاون مع الأمم المتحدة في مبادرة العلم المفتوح.

· برنامج تدريبي لأعضاء هيئة التدريس في الثقافة العلمية والمعرفة.

· جوائز للثقافة العلمية في الجامعات والمدارس للفئات العمرية المختلفة.

· احتساب دور الأستاذ الجامعي في الثقافة العلمية ضمن نقاط التقييم أثناء ترقيته.


ووجب التنويه أن هناك العديد من الأساتذة الجامعيين الذين ساهموا ومازالوا في تبسيط العلوم وفي الصحافة العلمية بصورة كبيرة أدت إلي اثراء الحالة المعرفية لدي المجتمع. وهناك أيضا بعض المنظمات والمؤسسات الكبيرة التي خصصت جزء من مجهودها في تبسيط العلوم مما ساهم في نشر مفهوم الثقافة العلمية بين عامة الناس. ومن هذه المؤسسات أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا وفروعها في الأقاليم، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، والمركز الثقافي البريطاني، ومدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، ومنظمة المجتمع العلمي العربي، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي وغيرها.

وإذا كان دور هذه المؤسسات هو دور فعال، إلا أن تبسيط العلوم يجب أن يكون ممنهج في كل مؤسسة بحثية وليس اختياريا، فهو ليس رفاهية بل مسئولية. فمهما تقدمت التكنولوجيا وازداد وتعمق التواصل الاجتماعي، يبقي تبسيط العلوم من أهم وأسرع الوسائل لنقل المعرفة وبصورة مشوقة.

الثقافة العلمية هي روح المجتمع الذي يشكل وجدانه ومزاجه وثقافته ويجدد حضارته. ولذلك لا بد من النخب العلمية أن تقو بدورها وان تستخدم علمها وتوظف وقتها من أجل تنمية المعرفة لدي الآخرين. ويجب ألا يترك ذلك للأهواء ولكن لا بد وأن ينفذ من خلال سياسة إلزام والتزام.

مع خالص تحياتي

ا.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة