"مصر بلد التاريخ والجغرافيا التي صهرت شمسها كل الثقافات وسحرت بجمالها ارضها كل من داس علي ترابها"
عندما نزل الوحي علي الرسول محمد، كانت هناك حضارات كبيرة قائمة في الشرق الأقصى والأدنى متمثلة في الحضارتين الصينية والفارسية والغرب الأعلى في أوروبا متمثلة في الحضارة الرومانية، وفي الشرق الأوسط في مصر والتي كانت تحت تأثير الحماية الرومانية. وكانت أقوي هذه الحضارات آنذاك هي الحضارة الفارسية والرومانية وما كان بينهما من تنافس وحروب ونزاعات من وقت لآخر.
وفي وسط هذه الأجواء أرسل الله سيدنا محمد في قريش التي لم تكن تمتلك من مقومات الحضارة سوي حركة البيع والشراء وزيارات الحجيج إلى الكعبة وبالطبع اللغة العربية في الشعر والأدب. أما غير ذلك فلم تكن قريش بها حضارة تضاهي بها الفرس والروم، بل كانت بها الكثير من مظاهر الجهل الديني من عبادة الأصنام والاخلاقي مثل العبودية ووأد الفتيات والنظرة الفوقية للمرأة وغياب أساليب التعليم، والهندسة، والزراعة، والطب.
ووسط هذه البيئة نزل الوحي علي رسول الله وهو في عمر الأربعين بعد أن هيأه الله تهيئة أخلاقية حتى هذا العمر حتي بدا أنه يختلف تماما عن معظم رجال عصره حتي لقب بالأمين والصادق والماهر والمخلص، واتسم بالقوة مع التواضع، وهي الصفات التي قلما ما كانت توجد كلها في شخص بعينه وخاصة منذ عمر الصبا ثم عمر الشباب الناضج.
وعلي عكس نشأة معظم الرسل السابقين، فقد نشأ سيدنا محمد في بيئة صعبة للغاية من الناحية الدينية، والفكرية والعقائدية والاجتماعية. فمعظم الرسل والأنبياء الذين بُعثوا قبل سيدنا محمد جاءوا من بيئة غلب عليها النبوة مثل سيدنا منذ سيدنا آدم الذي عاش فترة في الجنة ولم يكن حوله بشر سوي زوجته، وسيدنا نوح الذي عاش ٩٥٠ سنة، وسيدنا ابراهيم والدي كان في وقته ابن اخية سيدنا لوطا نبيا ثم ابنيه اسحق واسماعيل أيضا نبيين، ثم بعد ذلك سيدنا يعقوب ابن سيدنا اسحق والذي كان له احدي عشر ولدا ثم سيدنا يوسف ابن سيدنا يعقوب الذي عادت اليه اسرته كلها بما فيه أبويه واخوانه بعد أن علا شأنه وأصبح وزيرا في مصر، ثم سيدنا موسي الذي جاء من أسرة دينية ونشأ في بيت المُلك وكان أخوه هارون معه نييًا، حتي سيدنا عيسي عليه السلام فقد وُلِدَ وحوله سيدنا زكريا ويحيا وأمه السيدة مريم ابنة عمران والتي لم تك بغيًا.
وعلي عكس كل ذلك، نشأ الرسول محمد فقد حمل المسئولية كاملة في بيئة ضعيفة جاهلة، وحوله حضاراتي الفرس والروم بقوتهما في المعتقدات التي تحميها قوة الجيوش والتكنولوجيا المتاحة لديهم في ذاك الوقت. وعلينا أن نتخيل رجل بعثه الله للعالمين وبدأ بعثته وسط قريش وهم يعبدون الاصنام وليس لديهم استعداد ليستغنوا عنها لأنها تمثل أهم مورد لديهم من تجارة واسعة وغنية.
رجل لم يتعلم القراءة ولا الكتابة وكل خبرته كانت في التجارة والرعي، رجل يتيم الأب والأم يرعاه جده وعمه من بعده وليس لديهم أي ديانة. رجل بدأ بعثته وسط جهابذة اللغة والشعر والأدب والعصبية والقبيلة والذين لا يدينون بأي عقيدة سوي الأوثان. رجل بعثه الله في بيئة بسيطة ليس فيها من وسائل التواصل المجتمعي سوي سوق عكاظ وموسم الحجيج وموسم التجارة أثناء رحلتي الصيف والشتاء. رجل جاء ليخاطب العالم أجمع بدءا من قريش رغم عدم وجود أي خبرة مسبقة له عن الديانات السابقة والرسل والأنبياء السابقين.
ورغم كل ذلك، إلا أنه استطاع بفضل الله ودعم الفئة القليلة التي اتبعته في البداية أن يتغلب على كل الصعاب ويتحمل كل الأذى والتضحيات على مدار ثلاثة عشر سنة قاسية في مكة بين صناديد قريش قبل أن يهاجر إلى المدينة التي بدأ فيها بتشييد دولة مدنية أساسها العدل والتسامح والتآخي وابرام المعاهدات مع الأعداء. دولة أنشأ دستورها واعمدتها في فترة لا تزيد عن عشر سنوات حقق فيها ما لم يتوقع أبدًا أعداءه، بل تحول الكثير منهم إلى أتباع مخلصين.
وبعد رحيله صلي الله عليه وسلم لم تهدم الدعوة ولا الدولة، بل استمرت في نجاحاتها على أيدي خلفاءه من الصحابة الراشدين المخلصين وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رغم ما حدث من ارتداد بعض المسلمين. ثم زاد اتساع رقعة الدولة الاسلامية وقوتها في الشرق والغرب في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ثم اتسعت أكثر في عهد الخليفة الثالث عثمان بين عفان.
ورغم حدوث العديد من الفتن بين المسلمين منذ اللحظة التي قتل فيها سيدنا عثمان علي أيدي بعض الثوار، إلا أن الدولة لم تنفرط حتى بعد حدوث معارك بين المسلمين من فريق سيدنا علي بن ابي طالب الخليفة الرابع وفريق معاوية بن أبو سفيان الذي تقلد زمام الحكم بعد مقتل الحسين بن سيدنا علي. ورغم كل ما حدث من فتن وحروب، إلا أن فترة معاوية والتي استمرت عشرون عاما كان معظمها استقرار واتساع في رقعة الدولة وانتصارات كبيرة علي الدولة البيزنطية وعلى الفرس. ثم استمرت الدولة الأموية في التمدد بقوة حتى أخذت في الضعف ليحل محلها الدولة العباسية.
ورغم قسوة الأحداث التي تزامنت مع قيام الدولة العباسية وما تخلل ذلك من فتن واراقة دماء، إلا أن الدولة الاسلامية ازدهرت ايما ازدهار أثناء الدولة العباسية علميا وثقافيا واجتماعيا وماديا حتى وصلت إلى اسبانيا وشمال افريقيا وبلاد ما وراء النهرين. وازدهر العلم في جميع الفروع وهي الفترة التي سميت بالعصر الذهبي للعلوم في الاسلام. كل هذا الازدهار كان وراؤه همة وحكمة واخلاص وابداع من قبل المحكومين قبل الحكام. كان هناك اجتماع على النهضة وعلى التفوق وعلي العلم والمعرفة بما فيها الأعمال المترجمة من الاغريق، واليونان، والفرس، والرومان. كان الجميع يعمل بجد واجتهاد وبعلم ومعرفة وابداع حتى اصبحت بغداد هي عاصمة العلم والمعرفة والثقافة والمفكرين من رجال الدين والعزم وحتى الموسيقي والفن والأدب.
هكذا كانت بداية الدولة الاسلامية علي يد سيدنا محمد بفضل الله وازدهارها بقوة حتى نهاية الدولة العباسية قبل أن ينهي عليها الفرنجة في الاندلس والمغول في بغداد. ورغم الحروب الصليبية التي تلت ذلك ورغم حروب المغول، إلا أن الدولة الاسلامية وخاصة في مصر ظلت قوية وظلت تنعم بالبصمة الاسلامية سواء في زمن الدولة الفاطمية أو الاخشيدية أو الأيوبية أو في عصر المماليك أو الدولة العثمانية أو حتى بعد ذلك اثناء الاحتلال الفرنسي أو الإنجليزي. ظلت مصر قوية في دينها وثقافتها وثوابتها وعادتها وتقاليدها التي لا تخالف الدين حتى في أسوء مراحلها حتى القرون الحديثة. بل أصبح لمصر جامع الأزهر وتعددت المساجد حتى سميت القاهرة وحدها مدينة الألف مئذنة.
فعلي الأجيال المعاصرة أن تعي أن مصر هي صمام الأمن والأمان للدول الاسلامية والعربية ليس فقط في الدين، ولكن أيضا في العلم، والأدب، والثقافة، والمعرفة. ولذلك علينا جميعا نحن المصريين أن نتمسك بكل المبادئ والقيم والهوية المصرية الأصيلة مهما كانت التحديات والصعوبات والتضحيات. لا بد من البعد عن السطحية وعن العشوائية وعن تشويه السمات الشخصية المصرية الأصيلة التي اكتسبناها طوال تاريخنا المشرف الطويل منذ سيدنا ادريس مرورا بالحضارة الفرعونية والحضارة الاسلامية بفتراتها حتى عصرنا هذا.
وعلي الأجيال المعاصرة أن تعي أن الاحتلال لمصر بأنواعه منذ عهد الهكسوس حتى الاحتلال الانجليزي لم ينل من الشخصية المصرية وسماتها ولم تنصهر ابدا فيه الا برغبتها كما حدث مع الفتح الاسلامي في التحول من اللغة القبطية الي اللغة العربية لأنها لغة القرآن. ومع ذلك مازال المصريين يستخدمون اللغة العربية الفصحى. في التدريس والاعلام والقضاء ومازالوا يدافعون عنها خاصة من قبل مجمع اللغة العربية وأقسام اللغة العربية في كليات التربية والآداب ودار العلوم.
لقد دفع المسلمون الأوائل في عهد الرسول ثم في عهد الخلافة الراشدة. ثم في عهد الدولة الأموية، ثم العباسية، ثم ما تلاها حتى الجمهورية المصرية الجديدة الكثير من الجهد والمال والوقت وتحدي الضغوط النفسية لكي تبقي الدولة المصرية قوية وحولها الدول العربية والإسلامية قوية والدين الإسلامي في أيد أمينة. والحمد لله حتى الآن مازال معظم المصريين والعرب والمسلمين في غيرة دائمة علي الاسلام والقيم والأصول والعادات والتقاليد الأصيلة التي ترسخ سمات الهوية المصرية.
يجب أن نكون يقظين وأن تكون أعيننا على الأيدي الخفية في الداخل والخارج والتي تحاول أن تهدم هذه القيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التي تعددت، حتى ولو وصل الأمر إلي وقف بعض هذه الوسائل كما فعلت بعض الدول الأخرى.
ووسط كل ما يجري من أحداث في العالم أري أنها كلها تؤدي إلى طفرات أخلاقية، لدي إيمان عميق بأننا في مصر لدينا فرصة رائعة لكي نكون مختلفين بالابتعاد عن هذا الركب من التخلف الثقافي والرجعية الأخلاقية من خلال التمسك بالمبادئ والهوية المصرية الأصيلة. الفرصة حقا مواتية للتميز الأخلاقي عن كل شعوب العالم لأننا أهل لذلك ولدينا كل المقومات لتحقيق ذلك إذا أدرك الناس أهمية ذلك.
كل دعواتي وامنياتي الطيبة لنصرنا الحبيبة بكل تقدم، ورقي، وأمن، وأمان.
اللهم احفظ مصر والمصريين وقادة بلدنا العظيم.
ا.د. محمد لبيب سالم
كانت وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات