" لكي يكون العلماء ورثة الأنبياء، فلا أن تتحول علومهم إلي معرفة يستفيد منها البسطاء"
تحول العالم من "الفلسفة المثالية" في مدرسة افلاطون التي تقتصر على المعرفة إلى "الفلسفة التطبيقية" أي فلسفة الواقع وذلك في عهد أرسطو تلميذ أفلاطون، والتي ربط الأفكار الفلسفية بالظواهر الكونية والكائنات الحية في فكرها ومنطقها، وهو ما يطلق عليه العلم التجريبي. ومنذ ذلك الوقت أصبح الغوص بالفكرة والمنطق في المظاهر الكونية والحياتية من إنسان وحيوان ونبات هو السبيل ليس فقط لفهم الحياة، ولكن أيضا لتطور حضارة الإنسان وحل التحديات التي تعترضه. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الفلسفة العلمية بأنواعها هي السبيل الذي يمشي فيه بحكمة وتؤدة العلماء الموسوعيين والمتخصصين للتفكر والتدبر في المشكلات وإيجاد حلول علمية.
ولا يخلو عصر من العصور من مشكلات وتحديات تحتاج إلى حلول آجلة وأخري عاجلة. وكلما زاد تحضر الإنسان وتطورت التكنولوجيا، ازدادت التحديات كمًا ونوعًا. ومن أكبر التحديات تأثيرًا على الإنسان هي المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات الإنسانية، خاصة تلك المعقودة برباط انساني كالصداقة والقرابة، أو بقانون مثل الشراكة والزواج. وخير من يتعرض لهذه المشكلات والتحديات هم أهل العلوم كلٍ في تخصصه، سواء كانت علوم شرعية أو علوم إنسانية أو علوم اكاديمية وتطبيقية. ولذلك قام العلماء علي مر العصور في كل زمان ومكان برصد الحياة حولهم وحرثها وتنقيبها لتحديد التحديات المعرفية والإنسانية لتطبيق الأسلوب العلمي لإيجاد حلول منطقية ممكن تطبيقها على أرض الواقع.
وهذا ما فعله علماء مصر القديمة، وعلماء الإغريق والرومان، والمسلمين في العصر العباسي وبعدهم الأوروبيين في عصر النهضة ثم علماء العصر الحديث. وكان نتيجة كل هذه المعرفة المتراكمة عبر العصور وصول علماء المعاصرين إلي مانحن فيه من تكنولوجيا هائلة في كل ميادين الحياة في خلال فترة لا تزيد عن 100 عام. وعلي مر العصور حمل العلماء المسئولية العلمية فوق اكتافهم وقاموا بها علي أكمل وجه رغم كل الصعوبات التي واجهتهم سواء صعوبات مالية، أو اجتماعية أو دينية أو سياسية حتي تعرض الكثير منهم إلي الإيذاء النفسي والجسدي الذي وصل في الكثير من الأحيان إلي التنكيل والنفي والقتل.
والسؤال الذي يطرح نفسه امام المقصرين من العلماء في كل عصر ومكان, هل كان وجوبيا على سقراط وأفلاطون ومن قبلهم طاليس هيراقليطس، بارمنيدس، وفيثاغورس ومن بعدهم أرسطو وغيرهم الكثيرون من العلماء والفلاسفة مثل أبقراط وجالينوس أن يتفرغوا لدراسة الكون والحياة للخروج بأفكار جديدة ونظريات في عصرهم لتنفع غيرهم في غير عصرهم بما فيها العصور التي جاءت بعدهم. بالطبع لم يكن حتما عليهم ولا إجبارًا، فلم يكن أحد ليتهمهم بالتقصير أو يقاضيهم أو يحاكمهم إن لم يفعلوا. ولكنهم فعلوا ليس من أجل وظيفة يتكسبون منها ويعيشون بها، ولكن لأنهم حملوا المسئولية على عاتقهم وقاموا بمهمتهم علي خير وجه رغم ما عانوه من من مضايقات وصلت للتعذيب والقتل كما حدث مع سقراط إذ صدر الحكم الإعدام عليه في 15 فبراير عام 399 ق.م. ولو عاد سقراط للحياة بعد قتله فلن يندم على علمه الذي قدمه بل سوف يستمر في تطوير علمه والتمسك بأحلامه مهما ولو قتل مرة أخري.
وهل كان حتمًا وفرضًا علي علماء عصر النهضة العلمية الإسلامية مثل الكندي، وحنين بن اسحق، ونصير الدين الرازي، وفخر الدين الطوسي، وبن خلدون، والفارابي، والرازي، وأبو القاسم، وبن اللبودي وبن النفيس، وجـــابر بن حيان، وبن الشاطر وبن الهيثم، والخوارزمي، وبن سينا، وأبو الريحان البيروني، وبن البيطار، وعمر الخيام، وأولوج بيك, والجاحظ، وغيرهم من علماء هذا العصر الذهبي للإسلام منذ القرن السابع الميلادي إلي الثاني عشر الميلادي، وبعض العلماء في القرون التالية، أن يبحثوا في علوم الكيمياء والطب والفلك والرياضيات والحيوان والنبات ليصلوا إلي ما وصلوا إليه آنذاك من علوم وابتكارات وتكنولوجيا كانت الأساس وراء النهضة العلمية الغربية التي بدأت في نهاية القرن الخامس عشر حتي التاسع عشر .بالطبع لا، فلم يكن حتما عليهم ولا إجبارًا، ولم يكن ليتهمهم أحد بالتقصير أو يقاضيهم أو يحاكمهم إن لم يفعلوا. ولكنهم فعلوا ليس من أجل وظيفة يتكسبون منها ويعيشون بها، ولكن لأنهم حملوا المسئولية على عاتقهم وقاموا بمهمتهم علي خير وجه.
وهل كان لزاما علي علماء عصر النهضة العلمية في أوروبا مثل وليام شكسبير، نيتشه جوته، فرانسيس بيكون، ميكافيللي، ليوناردو دافنشي، مشيل انجلو، فاسكو دي جاما، كريستوفر كولمبوس كوبيرنيكوس، وجاليليو، ونيوتن، وبوهر، وباستير، ودارون، واندرياس فيزاليوس، وباراسيلسوس، وويليام هارفي وغيرهم من العلماء أن يهبوا حياتهم وأنفسهم للعلم رغم ما نالهم من أذي وصل إلي حد النفي والمحاكمة مثل جاليليو للمقاضاة بتهمة دعمه لنظرية مركزية الشمس التي كان قد اقترحها من قبله كوبر نيكوس ولم تنشر إلا بعد وفاته خوفا من الكنيسة. بالطبع لا، لم يكن حتما عليهم ولا إجبارًا، فلم يكن أحد ليتهمهم بالتقصير أو يقاضيهم أو يحاكمهم إن لم يفعلوا. ولكنهم فعلوا ليس من أجل وظيفة يتكسبون منها ويعيشون بها، ولكن لأنهم حملوا المسئولية على عاتقهم وقاموا بمهمتهم علي خير وجه.
وإذا كان هذا هو حال العلم والعلماء في العصور السالفة من العرب والعجم والموالي ومن الغرب والذين يحبون وراء ركاب العلم محاولين الإمساك بطرفه، وكانت المدارس والجامعات مازالت في مهدها، وكان انتشار الكتب بين أيدي الناس عزيزا، وكان تواصل العلماء والناس محدودًا، فما بالنا من دور العلماء المسلمون في عصرنا هذا والذي أصبحت فيه كل أسباب وأدوات العلم متاحة ومجانية للقاصي والداني. وإذا كان علماء الغرب ما زلوا يمشون في طريق العلم بقوة وحكمة دون أن توقفهم العثرات، فأين العلماء العرب من طريق العلم المبني على المعرفة والمؤدي إلي حل المشكلات والتحديات الوطنية والمجتمعية.
أكاد أزعم أن البحث العلمي عند الكثيرين من الباحثين قد تحول إلى وظيفة بمرتب ثابت يعين صاحبه على العيش والحياة، فلم يعد المنطق والابتكار عند معظم الباحثين هو الذي يحرك عقولهم وهممهم. ولم يعد هناك الكثير من الإنتاج العلمي في العلوم الأساسية المتقدمة التي من الممكن ان تضاف إلي المراجع العلمية من الكتب الأكاديمية التي يتم تدريس العلوم من خلالها. ولم يعد هناك العالم الموسوعي الذي يري علمه بعيون العلوم الأخرى. ولم يعد هناك الباحث والعالم الذي يحول علمه إلى معرفة مذاب فيها سُكر الأدب ليسقي بها عطشي المجتمع من حوله فيرتوي كل منهم حتى يشرب مرة أخري. وقد يفسر ذلك غياب العلماء العرب عن الجوائز الدولية الكبرى خاصة نوبل في التخصصات العلمية الأكاديمية.
فعندما أنظر حولي، لا أجد مؤلفات للباحثين العرب خارج إطار المؤلفات العلمية الأكاديمية المنشورة في الدوريات أو الكتب العلمية التي لا يستوعبها إلا المتخصصون. وعندما انظر حولي واتصفح مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالباحثين العرب بأشكالها المختلفة، أجدها خالية من الإنتاج المعرفي المبني على انتاجهم العلمي الذي قضوا فيه سنوات عجاف للخروج به ونشروه على الملأ.
وعندما أنظر علي الواقع حولي لا أجد حتى محاولات جادة من قبل العلماء العرب لنقل المعرفة التي انتجها علماء الغرب باللغة العربية لينهل منها مجتمعهم العربي. وهنا اتحسر على حركة الترجمة الكبيرة والواسعة التي بدأت في عصر الدولة الأموية وازدادت علي نطاق ووسع وممنهج في عصر الدولة العباسية حتى أصبحت كل مصادر المعرفة اليونانية والرومانية والفارسية بين ايدي العرب في فترة وجيزة. وبالطبع كانت حركة الترجمة تلك سببا في النهضة العلمية في العصر العباسي. وما يزيد حسرتي أني لا اجد من معظم علماء العرب إلا "بوستات" دينية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وحكم وكأن العلماء قد أصبح دورهم تقديم الموعظة الدينية بدلا من المعرفة العلمية التي لا يستطيع أحد غيرهم أن يقدمها للمجتمع.
فعلي سبيل المثال، المجتمع يعج بتحديات كبيرة مثل ارتفاع نسب الطلاق والبطالة والاجرام والتدني الأخلاقي، واللامبالاة، والسطحية وغيرها من التحديات الكبرى التي تحتاج إلي عقول العلماء وتوظيف معرفتهم في مساعدة الدولة في إيجاد علمية حلول عاجلة وآجلة. ومع ذلك لا نجد هناك دور فعالا للمتخصصين من الباحثين في هذه المجالات سواء في ميادين العمل أو علي الميديا أو مواقعهم الاجتماعية. فإن لم يقم الباحث المتخصص بعرض علمه وحكمته وخبرته علي المجتمع علي هيئة معرفة سهلة المنال والفهم، فمن يفعل غيرهم. هل نحتاج لأن يبعث فينا بن رشد وبن خلدون مرة أخري لكي يحلوا مشكلاتنا الاجتماعية،
وحتى أكون منصفا، فإن الساحة لا تخلو من بعض العلماء الجادين الذين يحاولون إما علي استحياء أو بـطريقة جادة رصينة وممنهجة وباجتهاد ذاتي في تقديم وتحويل انتاجهم العلمي إلي وجبات معرفية للمجتمع من خلال كتب أو مقالات أو معلومات علي مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. هؤلاء الحفنة من العلماء هم مشاعل المعرفة وهم من أدركوا قدر علمهم وفائدته ودوره في تطور مجتمعهم، وهم من حققوا على أرض الواقع بعض من مهامهم الوظيفية التي يتقاضون عليها مرتبات جزء منها نظير خدمة المجتمع.
ومن هؤلاء من حول هذا الدور ورفع من شأنه حتى أصبح يمثل رسالة حياة يعيشون من أجلها لهدف نبيل هو رقي مجتمعهم. هؤلاء هم مثل قناديل علماء الشريعة والأئمة الذين يقدمون للناس الحكمة والموعظة الحسنة في الدين والدنيا. هؤلاء سوف يجازيهم الله خير الجزاء على ما يقدمون من معرفة تضاف إلى معرفة الدين. فالدين ليس مواعظ فقط، بل هو علم وعمل، والعلم علم عبادات، وعلم معاملات وعلم ابتكارات ومعرفة.
وأشد ما نحتاج إلي معرفتهم هذه الأيام هم علماء العلوم الإنسانية، مثل الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والآداب والقانون والمال والاقتصاد. هؤلاء هم من نحتاج إلي خبراتهم ومعرفتهم كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم. هؤلاء من تمثل معرفتهم لنا جهاز تنفس صناعي نستنشق هواءه ولو قصرا حتى ننقي رئات حياتنا الاجتماعية من منغصات وتحديات الحياة. فمن يستطيع أن يتعرض إلى مشكلة ارتفاع نسب الطلاق والاجرام والجهل والسطحية واللامبالاة غير علماء العلوم الإنسانية.
أري المسئولية الملقاة على عاتق هؤلاء العلماء كبيرة، وسوف يحاسبون أمام الله تعالي والمجتمع على علمهم فيما نفعوا بـه. والمجتمع لا ينتظر من هؤلاء العلماء نصائح دينية ولا تغطية سياسية، بل ينتظر منهم علما ومعرفة ترشدهم وتهديهم وتثقفهم وتطور حالهم رويدا رويدا حتى تصبح الثقافة المعرفية أقداما تمشي على الأرض وهواء تتنفسه الرئات المتعبة المنهكة.
وبالمثل، فكما أن المجتمع في حاجة ماسة لعلم ومعرفة علماء العلوم الإنسانية، فالمجتمع أيضا
في حاجة ماسة لعلم ومعرفة علماء الطب والهندسة والزراعة والكيمياء والفيزياء وعلوم الحياة. فبعلمهم المبني علي التعرض إلي التحديات بأسلوب علمي رصين يؤدي إلي معرفة حقيقية هو السبيل الموازي لتطور المجتمع.
وكما أن النبات يتأثر سلبًا أو إيجابًا بالبيئة التي يتربى فيها من ماء وهواء وسماد، فكذلك عقل الإنسان يتأثر ببيئة المعرفية التي يتربى فيها. فالعقل مثل المعدة. فكما أن المعدة تقوم بهضم الذي تتلقاه من صاحبها غصبًا أو طواعية الطعام لتحوله إلي مواد يعيش عليها الجسد فيحيا او يتألم أو يموت بسببها، فكذلك العقل فهو يهضم المعرفة التي يتلقاها فيهضمها غصبًا أو طواعية قبل أن يتحول إلي فكر يغذي النفس فإما أن تسعد به أو تتألم أو تموت. وكما أن نوع وكم الغذاء المتاح في الأسواق مهم لتشكيل بطون الناس، فكذلك نوع وكم المعرفة المتاحة مهمة لتشكيل نفوس الناس.
كم نحتاج إلى معرفة العلماء، وكم أتمنى أن يقوم العلماء بهذه المهمة كل في تخصصه، وأن تكون رسالة انتاج المعرفة نصب اعينهم كرسالة حياة، وليجعلوا من علمهم أعلام علي مواقعهم المجتمعية لتصبح قنوات للتواصل المعرفي. فإذا كان العلم مكانه المعامل وحرم الجامعات، فإن المعرفة المبنية علي العلم مكانها بين الناس.
ولكي يكون العلماء ورثة الأنبياء، فلا أن تتحول علومهم إلي معرفة يستفيد منها البسطاء.
خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg
https://www.youtube.com/watch?v=vnHLE_Jb1tg