هي كحياة الملايين و للاسف هي نهاية كنهاية الملايين

أساتذتُه في الجامعة ساديون ،

والداه متطلبان ،

أخوته منتفعون ،

زملائه متنمرون ،

اما أصدقائه فهم منشغلون ،

كان لزاما عليه ان يثّبت لنفسه موطء قدم في معترك جماعات الذكور التي لابد له من محاولة الانتماء اليها ،

انه يحتاج لذلك بشدة .

لا حلّ لهُ إلا أن يحجز لنفسِه كرسياً معهَم على قهوتِهم الحنون التي احتضنتهم بعد أن كانوا لا يجدون لأنفسهم مأوى و لا مستقر .

فبعد أن كانوا يهيمون في الشوارعِ كقطعانٍ الضباع التي تفترس بأعينِها أجسادَ الإناث في الشوارع ، و بين الحين و الآخر يستمتعون و هم يلسعون هذة او تلك بلسانهِم الحاد ، و كان عليه هو أن يتنكر وسطَهم و ينسخ تصرفاتَهم حتى لا ينتبهون له ، فيمزقونَه بسخريتِهم و يسلخونه بألسنتِهم الأشبه بشفراتِ الحلاق .

أصبح لديهُم أخيرًا مكان لا يتطلب منهم الكثير ، و لكنهم يستطيعون ان يتناطحوا فيهِ على راحتِهم و يستطيعون ان يشعروا بقوتِهم المُزيفة و ذكورتِهم الواهنة .

يستطيعون فيه ان يحكوا عن امجادِهم المزورةِ و بطولاتهِم المغشوشة . لم يكن هناك بدَّ من ذلك ، لابدّ له من حجزِ مكانٍ معهم .فهو لو لم يكن يملك بطولات فعلى الأقل فليستمتع بأساطيرِ الآخرين.

لم يحب ذلك يومًا و لكن ما نفع فأرٍ وسَط الضباع ؟

كان لابدَّ له من التماهي وسطَهم .

انه يتمنى يومًا لو يتجرد على حقيتِه و لو ليومٍ واحد ،

لو يستطيع فقط أن يجد لنفسه مُستقَرًا يرتاح فيهِ في حِجر فتاةٍ طيبةٍ عطوف ،

لو يستطيع فقط أن يتوسد فخذًا بضًا و يخلُد في سباتٍ عميقٍ بلا كوابيس

هذا حقهُ بعد كل هذا التعب !!

ولكن من عساها تقبل بمثلِه ؟ ، إذ لم يكن امامه سوى أن يقبل بما يتعثر به في طريقهِ ، ( أحسن من مافيش ).

فإتخذَ فتاةً اشبه بأنثى الكركدن ' وحيد القرن ' ذات غرائز بدائية متوحشة ، تربي مخالب يديها وقدميها لتدافع بها عن نفسِها ، فتطليها بلون بني غامق أشبه بالفضلات الآدمية ، ربما لتصيب الضحية بالتسمم ، و ربما لتصيبَها بالتقزز ،

و لكنها رومانسيةٌ حالمةٌ طبعًا ..

هو يذكُر حين تُشرع هي في التحدث عن مستقبلهِم ، كيف ترفع عيناها للسماء ، و تدُس مخالبِها في فمها فتقشر بعض الطلاءِ و تبصقه بجوار رهينتِها ليبقى منظرَ طلاء مخالبها علامةَ إنذارٍ لمن يجرؤ و يفكر في المشاكسة .

هي أيضًا ﻻ تهمل أبدًا نفش شعرَها وصبغهِ بجميع ألوان النيران : أصفر ، أحمر ،برتقالي ، او حتي أسود ، ربما لتعظه و ربما لتذكره بالجحيمِ و عذابِ الأخرة .

و بالطبع كأي فتاةٍ تحترم نفسَها، فهي إنتقائيةٌ جدًا في أزيائِها و لا ترتدي إلا أفخر ما يخرجُه تجار البالة من موديلات ، ولا ترتضي ابدًا إﻻ أن ترتدي على آخرِ موضة " طبعًا وفقًا لمفهومها هي عن الموضة " ، فهي لا ترتدي إلا الألوان التي تعمي الإبصار من فرط شياكتها ، الألوان الصارخة ، الألوان العاكسة ، ربما لتحذر أي شاحنة عابرة أنّ هناك خطرًا على الطريق يجب تفاديه و إلا كانت كارثة محققة لا سمح الله .

و إستكمالاً لحظهِ المليح ، فقد حظي بفتاةٍ وهبها اللهُّ أذُنًا موسيقيةً مرهفةَ الاحساس ، فهي تستمتعُ بأوكا و أورتيجا و طيفٍ واسعٍ من فنونِ المهرجانات ، و ذلك استكمالًا لطقوس الشعوذة التي تحيا ﻷجلِها . و لكنها و حتى لا ننتقص منها قدرَها و عذوبة ذوقِها ؛ فهي أيضًا تستمتع بأنواعٍ موسيقيةٍ أُخرى ، فهى مطلعةٌ على تشكيلةً واسعةٍ و ثريةٍ من فنون الموسيقى هي تحب نزالات الراب فهي ترى فيها ما تفتقدهُ في خليلِها و حليلِها .

فهي تستمع لأحد الفنانين و على ما يبدو وفقا لأسمِه و لصفاته و مواصفاته فإنهُ كائن اسطوري يطلقون عليه "ويجز" ، و هو عملاقٌ و متمرس في تلك النزالات ؛ فهو وزنه مائة وخمسة و ستين ، و وزن رأسِه فقط مائة ، و سنهُ واحد و عشرين و لسانه ستين ، و لسانه سكين ، انك حتي لن تستطع ان تنساه ؛ فهو بيعجز و يشيل و يعجز و يكسح؛ حتي انه سيجعلك تيجي تتمسح ، و بيتمسك و يسيب و بيتملك و يبيع و العيشة ربيع ... فخلاصةِ القولِ ان هذا الويجز شقي و على درجة عالية من الخطورة ، و بالطبع فأرها الصغير هذا لا يمكن أن يجاريه و من الاساس هو لا يمتلك صفةً واحدة فقط من هذه الصفات .

باغتتهُ هذه الفكرة حالًا ، ربما هي تصبغ وجههَا بهذا الشكل لتصبح كساحرات الفودو المخيفات ، ربما لتعوض عن ضعفِ فأرها الصغير و ربما حمايةً له من شرور العالم و لتخيف كلَّ من يفكر أن يتعرض لفأرها الحبيب ؛ فهي كما يحب ان يداعبَها و يدللها "دبة حنون" .

و ربما نكايةً فيه لتخيفَه بشكلِها و لتُظهِر له في كوابيسه ...

هو حقًا لا يفهم أين الخطأ على وجهِ التحديد

متى حدثَ ما حدث ؟!

و متى حصل كلُّ ما حصل ؟!

من أين بدأت المشكلة !!

ماذا كان يجب أن لا يفعله و فعله ؟!

ماذا كان يجب أن يفعله و لم يفعله ؟!

هو لم يخطيء في أي شيءٍ على الإطلاق ، ربما لم يكن لديه الفرصة اصلًا ليخطيء ، فمن يخطيء لابدَّ له من الأساس ان يمتلك رفاهية الإختيار ليختار بين الصوابِ و الخطأ .

لكنه لم يختر يوماً .

فهو لم يختر أن يكون لأبوين يمقت كلًا منهما الآخر ، و لم يختر أن يكذب كل منهما على الآخر لتفادي ( وجع الدماغ )...

و لم يختر أن يذهب إلى مدرستِه التي تحتفي بمدرسيها الساديين و المازوخيين في آن ، و الذين لم يكونوا لتختارهم المدرسةُ لتعينهم إلا لو اجتازوا إختبار جورنج .

إختبارُ جورنج هو إختبار ابتكرته الإدارة الحكيمةُ لمدرستِه ، و أسموه بهذا الإسم تيمنًا بمهندسِ هتلر النازي للتعذيب "هيرمان جورنج".

و صراحةً .. مدرسي مدرستِه قد تفوقوا على جورنج بأشواط ؛ ففي النهايةِ "جورنج" كان يفعل ما يفعل بهدفِ القضاءِ على كلِّ ما هو ليس نازي ، فكان فقط يقتلهم ، أي نعم كان يعذبهم اولًا ، و لكنه يقتلهم في النهاية و ينهي عذابَهم هذا.

اما المدرسين فهم ذوو نظرة مختلفة ؛ فهم يعذبونك لمصلحتِك ، هم يكسرون و الأهالي تجبس بمنتهى الفخر .

فالمدرس الحصيف ليس الذي يكسر ذراعك لتصرخ من الالم ،بل هذا الذي يكسر كبريائَك .

هذا الذي يستطيع أن يطعن كرامتَك النامية في طورها الأول ليقتلها في منبتها ، و ينتزع جذورَها ليمزقها على مرأى و مسمع منك و من العالمِ أجمع .

فكما نعلم جميعاً ليس من الحكمة أن تُكّون طفلاً ذي عقل نقدي ليقارعك فيما هو معلومٌ بالضرورة .

او ذي كرامة ليأبى الإذعان عن أي أمر ، إذا قهرته لن يجرؤ على النظرِ في عينيك ، لن يجرؤ على العصيان .

و على خلافِ جورنج فمدرسي مدرستنا هذه لن ينهوا حياتك بعدها ، هذا سيكون عكس المخطط ، بل الأفضل لك و للجميع أن يدعوك تحيا لتتعذب ( و كله علشان مصلحتك ) .

فأرنا الكليلُ هذا يدري جيداً أن مدرسيه و بفضل تربيتهم الرائعة له قد حموه من مواجهة العالم او التفكير فيه ،

لقد علموه حيلة ذكية جداً ، انه إذا هبَت عليه رياحٌ قوية ليس عليه أن يقف في وجهِها و يقارعُها ، يكفي فقط ان ينحني في خشوع و سوف تمر من فوق رأسه بدون اي مشاكل .

هو ايضا لم يختر اي شيء على الاطلاق ، لم يختر زملائة المنافقين الانتهازيين .

لم يكن يملك حتى ان يختار طعامة او شرابه او ملابسه ( حرام عليه نعمة ربنا ) ؛كانوا يهددونه بطعامة الذي يرفضه هذا ( احسن يزول من وشه ) ، و بالطبع لم يكن ليخاطر بهذا ابدا ، هو لا يخاطر على الاطلاق .

و هذا أفضل ما تعلمه من رحلةِ حياته القصيرة جداً

ألا يخاطر ابدًا ، فهو لن يخاطر بترك مقصًا مفتوحاً أو شبشبًا مقلوبًا ( فمن يدري سوء العاقبة ) ، لن يخاطر و يسأل عن ما لا يفهمه ( فقد تسوءه الاجابه ) ، و هو لن يخاطر و يختار اي اصدقاءٍ جدد ، و لن يخاطر و يواجه شاويش شارعهم الذي اعتاد أن يسلبَه كل ما يملك مذ كان طفلاً .

هو لن يخاطر بأن يقرأ فربما يقتله الملل او الأسوأ أن تقتله افكاره .

لقد سمع هذه القصة مراراً و تكراراً عن هذا الذي قرأ و تمرد و انتهى به المطاف مسجوناً او حبيسَ إحدى دور الامراض العقلية ، أو منفيًا في الأرض او مرجومًا بالحجارةِ من الناس في الشوارع ، أو مقتولاً و ممثلاً بجثتِه في أشهرِ ميادين مدينته الطيبة .

و لكنه على الرغم من حياته الهانئة تلك ، تلك الحياة المعدومة المخاطر

لا يشعر بالراحة فهو كالنائمِ على لوحٍ من جمر و لكنه في وسط المحيط في وسط مثلث برمودا ، ولا يستطيع حتى أن يمد يدَه في الماءِ البارد .

لا لا لا ،

لم يعُد يستطيع التحمل ،

هذه هي المرةُ الاولى ،

لقد قرر دخول كروم العنب اخيرًا و لقد أكدوا له أن هناك سيجد الظلَ والسكينة .

نزل له من أعلى كرم العنب أفعى

وجِلَ منها قليلًا وارتابَ ، لكنها كانت أفعى ودودة ،

حدثته عن عوالمٍ سحريةٍ سعيدة فيها نشوةُ و ضحك غير مبررٍ و سعادة لا نهايةَ لها ،

و فيها من الشجاعةِ والحكمة و القِوى ما ﻻ سبقَ لبشريِ بتجربتِه ،

فيها نشوةُ نصر ، نشوةُ فحولة ، نشوة جنس ، نشوة حب.

كل ماعليكَ أن تفعله هو أن تأخذ حبةَ عنبٍ واحدة و الكرْمُ مليء ، وحين تريد التوقف ليس عليكَ سوى نطقِ كلمةِ السر . وجد نفسَه في أمسِ الحاجة لفدان عنب .

لم يتردد ، أخذ الحبة ، انتشى ، انتشى جدًا ، و انشرح صدرُه ، فقد القدرة على كلِّ شيء ، لم يعُد يسيطر ، وهو اصلًا لم يسيطر في حياته و لم يكن يريد أن يسيطر اصلًا.

لَفَت الافعى نفسها حول فمهِ في هدوء ، لم يستطع لفظ كلمة واحدة ، ( و ما نفع الكلام ؟) ، غرست أنيابها في رقبتِه و أحكمت احتضانَها لفمه لتمنعه من طلبِ النجدة ( وكأنه كان سيطلب !! ) ، سلَم الروحَ في نزاعٍ ، سكنت حركتَه ، إنتهى .




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات محمد الجمل

تدوينات ذات صلة