قصة عن نجاح صحفية في الدخول إلى عالم الإعلام بقوة
لم تكن شام سوى صحفية نشيطة وإعلامية تحاول
الوصول إلى أحالمها، وقد كانت جربت الجريان في العديد
من الطرق بعد أن اجتهدت في دراستها بمواصلتها الليل
والنهار، تقول في إحدى مقاالتها: أنا شام ابنة القدس، حفيدة
دمشق، ثنائية الجنسية والروح بأمٍّ سورية وأب فلسطيني،
فهل تعلمون مدى القوّة القابعة داخلي، وقد عايشت
فراقين على مدار حياتي فأول فراق هو التغريبة
الفلسطينية، وكلّنا نتجرَّع مرارته حتى وإن لم نعايشه، وأمَّا
الثاني وقد كان في سنة 2012 فحينما أجبرت أنا وشقيقتي
وهي كل ما تبقَّى لي من عائلتي على الهروب واللجوء إلى
بلد آخر علّنا نجد فيه المكان اآلمن لمواصلة أحلامنا كما
أوصانا والدانا وهما يلفظان أنفاسهما الأخيرة. أتعلمون
حجم المرارة العالقة داخل حنجرتي. لم أستطع أن أكون
فلسطينية بحقّ أو أن أصبح سوريّة وقد رُميت إلى المنفى
أصارع أحلامي لأصل إليها. أمسكت شام الأوراق وهي
تتأمّل وتقرأ ما تكتبُ قبل تقديم ورقة استقالتها التي
أرغمت على التوقيع عليها، وخرجت مُسرعة خارج المبنى
قبل أن يراها أحد لكن اصطدامها بشاب أوقع الأوراق من
يدها، لتقف ودموع عينيها حبيسة وراء قضبان الخيبة
تُشعل نيران روحها بضراوة، وُضِعت يدٌ على كتفها فقالت
بصوت مرتجف: لم يعد هناك أمل لأكون صحفية، فهذه
عاشر مجلّة ترفضني لكوني ثنائية الجنسيّة. ما هو الذنب
الذي ارتكبته لأصبح هجيرة وطنين؟! ولماذا يتوجب عليّ
الندم الآن، في زمن قد مضى كنت فخورة بكوني ابنة امرأتين:
فلسطين وسوريا أمّا الآن فقد وُضِع إلى جانب اسمي
مهجّرة، انحنت والتقطت بيدها الأوراق التي تبعثرت في كل
اتجاه، فسارعت شقيقتها تحاول مساعدتها بتجميعها قبل
أن تذهب مع الريح وقد كانت الأجواء عاصفة والأمطار
تهطل بغزارة (هنا في برلين لن تكون قادرًا على التنبؤ بأحوال
الطقس حتى وإن كان لديك دكتوراه في الأرصاد الجوية)
قالتها تقى وهي تبتسم لشقيقتها شام وقد كانت كما في
كلّ مرة تحاول زرع البسمة على وجهها الحزين وهي تعتقد بأنها تنجح في أداء هذه المهمة، لكنّ هذه المرة لم تكن
تصغي لها بل كانت تمشي بخطوات واهية ثقيلة
وهي تنظر نحو المجهول بعين اللاشيء كما دومًا تنعت
نفسها، حاولت تقى إيقافها لكن عبثًا كانت محاوالتها لهذا
قررت اللحاق بها إلى حيث تذهب، في بادئ الأمر كانت تفكر
بما يدور في رأس شقيقتها وكلّ ما تحاول فعله هو إيجاد
وسيلة إعادتها إلى الواقع لكن ما أصابها بالدهشة هو
جلوسها عند أول شجرة صنوبر. اقتربت منها وفوق رأسها
عالمات استفهام تتراقص بضجيج حتى إنها اعتقدت بأن
شام شاهدتها وهي تتراقص، حينما همست لها: تعالي
واجلسي؛ إنه مكاننا المفضل، وضحكت باستهتار قائلة: بل
مكاني المفضل، أضافت تقى بتردد ترجع بي الذكريات إلى
أول أيامنا هنا أنتِ عائلتي الوحيدة وضلعي الثابت ما الذي
حدث معك هيّا أخبريني!؟
للمرة الأولى تأمّلت شام شقيقتها بشعرها الكستنائي
ووجها الملائكي، اقتربت منها وقبّلت جبينها بعمق من ثم
قالت لها: لقد كنت قويّة يا شقيقتي حتى أتى اليوم الذي قسم قلبي إلى نصفين لم أكن ضعيفة مثل الآن حتى في
اليوم الأول لي في العمل عندما قيل لي إنني مجرّد فتاة لا
أحمل جنسية بلد واحد. تنهدت بعمق وأكملت: لقد كنت
قادرة على تحمّل كل شيء، لكنني مازلت في اعتقادهم لا أحمل هويّة ثابتة. أنا لست فلسطينية بالكامل أو حتى
سورية، مازلت في منتصف الطريق. أعادهما إلى الواقع
صوت أجشّ يتحدث الألمانية، فوقفتا تستمعان لما يقول
لهما، لكن ما حدث قد جعل الفرحة تتراقص على إيقاع
نبضاتهما، فقد أثّرت مقال شام في رئيس المجلة حتى إنّه
جعل نائبه يعجّل بانضمامها كصحفية من صحفيات المجلّة.
تألقت عيناهما قبل أن ترددا بصوت واحد كالموسيقى:
حان الوقت لاستعادة صوتنا والنداء بفلسطين.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات