أنا أخوض حروباً كثيرة داخل عقلي محاولاً الهرب لكن دون جدوى،

لديّ الكثير من القلق والغضب السريع الذي لا أعرف سبباً واضحاً له، فرُحت أفتش في خبايا نفسي وأحداث عمري بحثاً عن المبررات التي تدفعني إلى هذا، لأجد أننا نعيش في عالم مليء بالسرعة في كلّ شيء والقلق من أي شيء، هذا ما يجعلنا نتخبط ونفقد توازننا خلال رحلتنا في الحياة.


هل فكرت يوماً في السبب العميق وراء شعورنا بالقلق المُستمر؟ تشير نظريات كثيرة إلى أن رحلتنا مع السرعة والقلق بدأت منذ نشأتنا على هذه الأرض، ومع أول ظهور للإنسان العاقل، قبل نحو 75 ألف عامٍ، حيث ماتت البشرية تقريباً، وفقاً لكارثة "توبا"، هذا الانفجار الذي يصنف بأنه أعنف حدث بركاني عرفته البشرية حتى الآن.


حيث أثر هذا الانفجار على 90% من المحاصيل الزراعية، وانتشرت طبقات كثيفة من الغبار والرماد والدخان حجبت ضوء الشمس المسؤول عن النمو الغذائي، والتي غطت آلافاً من الأميال، كان هذا انفجاراً عنيفاً، لقد نفث في الهواء كمية غير معقولة من التراب، بلغت 670 ميلاً مُكعباً، كما أسفر عن تغطية مساحات كبيرة من ماليزيا والهند بطبقة من الرماد البركاني، وصل سمكها إلى 30 قدماً، وانساب الدخان السام والرماد فوق إفريقيا، مخلفاً في إثره الموت والدمار.


هذا ما دفع أسلافنا إلى النزوح إلى أماكن بعيدة عن الحدث البركاني، لكن لا أظن أن هذه هي البداية الحقيقية لشعورنا بالقلق واستخدام السرعة في مواجهة حياتنا، تسبق الكارثة محاولات كثيرة في استخدام السرعة، مُنذ الإنسان البدائي الذي كان يخرج من كهفه إلى البرية مع أول ظهور لشعاع الشمس، محاولاً جلب قوت يومه عبر الصيد مسرعاً قبل الغروب عائداً إلى كهفه، كان هذا الميراث الذي حصلنا عليه من أسلافنا، والذي تشكل بفعل السنوات داخل عقولنا عبر الوعي الجمعي للإنسان.


تركت هذه الأحداث عبر تاريخنا البشري شعوراً عميقاً داخل عقولنا إلى الخوف المُستمر من مجريات الزمن، وهذا ما يدفعنا دوماً إلى مجاراة الوقت، فالسرعة في كلّ شيء تدور حولنا، ما ترك أثراً دفيناً داخل أنفسنا بعدم المُتعة فيما نفعله، لتبقى كلّ الأحداث التي نفعلها شعوراً مؤقتاً بالراحة، سريعاً ما يتطاير كالكحول بحثاً عن بديل آخر نحاول إنجازه لمواجهة إحساسنا بأن هناك شيئاً سيفوتنا دون اللحاق به، حتى تحولت حياتنا إلى تمارين مُستمرة عن السرعة.


أستيقظ كلّ صباح، وأنا أشعر بحمل ثقيل فوق كتفي، وأحداث كثيرة داخل عقلي عليّ الإسراع في إنجازها، دون معرفة حقيقية مني بالإسراع في فعله، فأجد نفسي أتطلع إلى هاتفي أفتش عبر مواقع التواصل الاجتماعي على ما أظن أنه فاتني أثناء نومي، وأنظر عن كثب إلى البريد الإلكتروني لمعرفة أعمال اليوم، ثم أتوجه إلى العمل وأنا أفكر حول ماهية اليوم وكيف ستسير مهام العمل، وأثناء العمل أشغل عقلي بالانتهاء منه حتى أستطيع متابعة مراجع روايتي الجديدة، حتى أتمكن من التفكير في المقال الذي أريد أن أكتبه وأرسله إلى الناشر حتى أحاول التمسك بالكتابة الأسبوعية للمقالات، بالإضافة إلى الكُتب التي أود قراءتها، والأفلام التي أريد مشاهدتها، كلّ هذا وأنا أنسق وأسرع حتى أتمكن من اللقاء الأسبوعي مع الأصدقاء، ظناً مني بذلك أنني أستطيع الإنجاز، لتصيبني موجة من الإرهاق والقلق والسعي وراء السراب الذي أظن به أنني أستطيع التحكم في أحداث حياتي.


ربما هذا ما دفع غاندي إلى قوله: يوجد في الحياة ما هو أهم من زيادة سرعتها. وفي سنة 1982، صاغ طبيب أمريكي، يدعى لاري دوسّي، مصطلحاً اسمه "مرض الوقت" لوصف الاعتقاد الوسواسى بأن "الوقت ينفد، ولا يوجد ما يكفي منه، وأن عليك الإسراع باستمرار للّحاق به".

كما جاء المثل الدارج "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، داعياً إلى تخليد هذا المعنى داخلنا، فأصبح العالم اليوم مُصاباً "بمرض الوقت"، وجميعنا ننتمي إلى عقيدة السرعة ذاتها.

أشاهد أختي وهي تقول لابنها: أسرع في تناول وجبتك كي تنهي دروسك حتى تلحق اللعب قبل النوم، فوجدت أننا تربينا على هذا أيضاً، ونربي أولادنا على إنجاز الأشياء كي يتمكنوا من اللّحاق بقطار الوقت قبل أن يمضي مُسرعاً، دون محاولة حقيقية منا في جعلنا أو جعلهم يشعرون بالمتعة بالأشياء التي نفعلها أو يفعلونها.

بدأت جاهداً فهم الأسئلة الكامنة في صلب أفعالنا هذه: لماذا نحن مستعجلون دائماً؟ ما علاج مرض الوقت؟ هل يمكننا الإبطاء؟ أو بالأحرى هل هو مرغوب؟

أظن أن علينا الآن مواجهة اندفاعنا الوسواسي لأداء كلّ شيء بسرعة، السرعة ليست السياسة الأفضل، فالتطور يعمل وفق مبدأ البقاء للأصلح، وليس للأسرع، أتذكر قصة السلحفاة والأرنب التي تعلمناها ونحن صغار، تذكر أن السلحفاة هي التي فازت على الأرنب بالسباق في النّهاية. حين نسرع في حياتنا، ونحشو المزيد في كل ساعة فيها، فإننا نحمل أنفسنا فوق طاقتنا إلى حدّ الانهيار.


هناك جملة نتداولها دائماً تقول: "إذا أردت أن تتقن شيئاً فعليك فعله بالحب حتى تستمتع به". لذلك فالإسراع يمنحنا الإحساس الزائف بأفعالنا.

يقول ميلان كونديرا: يفقد العالم شفافيته شيئاً فشيئاً، يصبح متيماً وعصياً على الفهم، يهوى في المجهول، بينما يهرب الإنسان الذي خانه العالم إلى داخل نفسه، إلى حنينه، إلى أحلامه، إلى ثورته، فلا يعود بإمكانه سماع الأصوات التي تسائله من الخارج بعد أن أصَمّهُ الصوت الأليم الذي يرتفع داخله.

تغدو الحياة بالتأكيد سطحية حين نكون على عجل. فحين نهرع، لا نتعمق في الأمور، ونفشل في إقامة اتصال حقيقي مع العالم أو مع الآخرين، وكما كتب كونديرا في روايته البطء: "عندما تجري الأمور بسرعة كبيرة لا يمكن لأحد أن يكون متأكداً من أي شيء، أي شيء على الإطلاق، وحتى من نفسه".

إن الزمن مساحة فارغة، نحن البشر من نملأ هذه المساحة بالأحداث والمواقف، ومع الوقت ومرور شريط العمر نرى نتائج أفعالنا في لحظات استرجاع الأشياء التي خلقناها، وربما هذه الأيام نحصد ما فعلناه بالأمس، لذلك علينا جاهدين محاولة إصلاح الحاضر لنجد ثماراً جيدة من طريقة العيش عندما يأتي الغد.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات إسلام كوجاك

تدوينات ذات صلة