ساقتنا الأقدار نحو بعضنا فتقاطعت طرقنا، لا شيء يحدث مصادفة، كل شيء مُرَتّب ومُدبَّر بتقديرات إلهية.


كل شيء قد سبقت كتابتُه تجلّيَه، ولي ولك ذات الأحاسيس نحو هذه الفكرة التي آمنا بها.


تلاقينا فكان اللقاء أشبه بتلاقي موجتين عاتيتين، أنت بعينيك اللامعة وأنا بقلبي النقي... أذكر أنك أخبرتني ذات مرة كيف أن تلك اللحظة محفورة في رأسك ... في واقع الأمر، أذكر كل شيء تقوله.


مضت بنا أيامنا رويدًا رويدًا، لم نكن ندري إلى أين سيؤل بنا الطريق أو كيف سينتهي بنا الحال... لم نقع في الحب بل سرنا فيه ببطئٍ شديد حتى حُفِرَت خطوات الطريق فينا. أصبحنا أصدقاء، مستراح بعضنا من ضوضاء العالم الصغير حولنا، بنينا بيتًا من قلبينا وجعلناه ملاذًا من أذى العالمين.


ولكن دوام حال الدنيا محال، الأيام التي أذاقتنا حلاوة الأنس والسكن أرادت أن تجرّعنا علقم الحب حتى تكتمل تجربته.


تسللت أشباح الماضي إلى بيتنا الآمن، غير أننا لم نكن نعي أنها أشباح، أجادت التنكر لنا حتى رأيناها رأي العين لأي حقيقة في الوجود.كان الشبح المسيطر على كلينا هو الخوف، وكان عليك شبح وعليّ شبح من ماضيينا، شبحي كان الفراق وشبحك كان الاطمئنان.


همس الخوف في أذن الاطمئنان أن يبث في رأسك وهم رهبة الأمان، فأنت يا مسكين لم تعلم كيف تتكئ على كتف آخر أو ترمي أثقال قلبك بين يدي قلبٍ آخر مطمئنًا أن لا شر يحوم حولك. أخذا يخبراك أن طريقنا آخره دمار وأوجاع أخرى تعرفها لم يكن تخطيها يسيرًا على روحك.

همس الخوف في أذن الفراق أن يبث في رأسي وهم رهبة المسافات، فأنا مسكينة لم أرَ يومًا حُبًا ينجو بُعدَ قلبين عن بعضهما أو أعلم للحب برهانًا سوى أن يكون الحبيبان أقرب ما يكون إلى الالتصاق. أخذا يخبراني أن طريقنا آخره دمار وأوجاع أخرى أعرفها لم يكن تخطيها يسيرًا على روحي.


أجبرتك أوهام رأسك على أخد خطوة إلى الوراء، كنت تحتاج إلى مسافة لتفكر فيها، لترسم حدودًا بين ما أنت مستعد لمشاركته معي وما أنت غير مستعد للتخلي عن سيطرتك عليه بعد.

أجبرتني أوهام رأسي أن أقترب منك أكثر، أن أسير إليك الخطوة التي تراجعتها وأتبعها بخطوات أكثر، كنت أحتاج أن أشعر بقربك أكثر من أي شيء.


وهكذا اختل توازننا... فكلما سرت تجاهك خطوات ابتعدتَها، ابتعدتَ فوقها أكثر، لم تفهم حاجتي لقربك ولم أفهم حاجتك للمسافات حتى ينجو بيتنا.


غير أن ما فعلته غذى جذور الخوف التي ضُرِبَت فيّ، ضرب إعصار بيتنا أو أُلقيت عليه إحدى اللعنات، خرجتُ من بيتنا أبحث عن شيءٍ يهديني إليك أو يهديك إليّ سبيلًا، سألت آخرين وسمعت لهم، آخرين لا يعلمون شيئا عن بيتنا وكيف بنيناه، ولا عن قلبينا وكيف اجتمعا واتحدا وتشكلا.


كثرت الأصوات في رأسي ولم أعد أميز أيهم صوتي... أيهم صوت قلبي وأيهم صوت عقلي وأيهم صوت الحب؟!

وأنت كنت بعيد... في المسافة التي أردت أن تخلقها بيننا. فأخذت قراري بأن أنهي كل شيء قبل أن تنهيني مسافاتك التي لم أعلم مآلها ولا مآلنا بعدها ولا مآلي بها. أفلتُ يدك بعد أن أدمت يدي... وأنت لم تُبدِ ارتباكًا... ولو قليلا... أنهيتُ كل شيء وكل ذرة في كياني كانت ترجو أن تستبقيها لتبقى.


الليالي الأولى التي تلت الفقد ظننتها ستكون الأبشع، غير أن كل القبح يأتي بعدما تتأكد أن ما فاتك كان حُبًا خالصًا نادرًا حقيقيًا، وأن عليك الآن أن تتعلم الاعتياد على العيش بتلك الغصة التي تتوسط حلقك وأن تحاول التقاط بعض أنفاس الحياة رغم تلك الفجوة التي تتوسط صدرك.


كان عليّ أن أتخطاك رغمًا عن أنف قلبي، وإن لم أستطع فسيكتفي عقلي بشرف المحاولة. جعلتك الشرير في نسخةٍ لهذه القصة، وجعلتك مُخْلِفًا للوعود في نسخةٍ أخرى، كتبت قائمة بعيوبك وأخذت أتلوها على مسامعي، تخيلت كل السوء الذي كان من الممكن أن يحدث بيننا. حاولت... حاولت مغادرة بيتي الذي بنيته من قلبك، وباءت جميع محاولاتي بالفشل.


ولكن لا شيء يحدث مصادفة، أ تذكُر؟ أخذت أشغَل عقلي عن فشله الذريع بالتعلم...

لماذا أسيء التصرف مع من أحب؟

لماذا أحب حبًا سقيمًا لا يدوم؟

كيف ينتهي بي الأمر بألا أكون دومًا الخرقاء التي تدمر عشها بيديها؟

كيف لا أساهم في دق مسامير نعش قلبي؟

كيف أعيد قلبي إليّ؟ كيف أعيد روحي إلي؟ كيف أعيد حبيبي إلي؟

أخبرني أيها الانترنت وقولي لي أيتها الكتب.

تعلمت الكثير، عني وعنك وعنا، فهمت لما آثرتَ المسافة ولما آثرتُ القُرب. أدركت الفرق بين التعلق والحب. وتركت الوقت يلعب أوراقه حتى ينكشف لي أي شيءٍ كنا.


"إن لم يزدك البعد حبًا فإنك لم تحب حقًا"... لم يزدني ابتعادنا إلا تيقنًا من صدق قلبي. تعلمت أشياء كثيرة أكبرها أن تعلقي بك كان نتيجة لحبي لا تزييفًا لما خُلِقَ بيننا، لم يكشف لي الوقت من أوراقه شيئا أشد من ورقة الحب، ورقة التعلق لم تكن ضمن أوراقه في المقام الأول.


الآن وقد فهمتُ كل شيء: الأشباح التي احتلت بيتنا، حاجتك للمسافات وحاجتي لإزالتها، أخطائي وشياطيني، وأين أخطأتَ أنت وكيف ساهمتَ في دمارنا، شاء الله أن يجمعنا مرة أخرى؛ لأنك أنت أيضًا قد فهمتَ كل شيء: الأشباح التي احتلت بيتنا، حاجتي لقربك وحاجتك للمسافات، أخطاءك وشياطينك، وأين أخطأتُ أنا وكيف ساهمتُ في دمارنا.


لا شيء يحدث مصادفة... طردنا الأشباح من بيتنا وجددنا أسسه، لم ندخله مرة أخرى لأننا لم نبارحه قط.

مددت لي يدك في أشد أوقات ضعفك، فأمسكت بها بكل ما أوتيت من قوة وعقدت العزم على ألا أتركها مرة أخرى.

ليس مع الوقت أوراق أخرى ليلعبها وليس لنا أشباح نجهلها، ولو احتل بيتنا أي شيء، هذه المرة أعرف كيف أطرده قبل أن يتمكن منه.


لا شيء يحدث مصادفة... التقينا لنعرف الحب ببعضنا، ثم افترقنا لنعرف به أنفسنا، كُتِب أن نصطدم ببعضنا لنسقط فنقوم معًا أقوى مما كنا.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات همسات| فاطمة وائل

تدوينات ذات صلة