( ما الذي يسبب أحدَ أشدّ مشاعر الإنسان وحشية و جموحا ؟ و أي شيء قد يحرره منها؟)



قالت جدّتي أن الوقت يشفي جميع الجروح في النهاية. و كان عليّ أن أفهم من ذلك أن كل كلومها الماضية اندملت.


السبعون عمر جليل و يخفي تحت طياته آلاما كثيرة، و لكنه في الحقيقة لا يشفي منها شيئا، فالجروح التي لم تُعالَج ستسبب لك الحُمّى مجددا و العواصف التي اخترت أن تحاذيها و تهرب ستهزّك كلما مرّت بقربك، و الحروب التي فررت منها و لم تخضها ستطالك نبالها مهما فررت..


لهذا أقول أنّ دسّ الآلام في ركن مظلم في الذاكرة لن يمحوها ولن يُخمِدها، ستَخَزُنا أشواكها عند كل موقف يذكرنا بها، و سنتصرف بناء على ذلك و نحن نتوهّم أن دوافعنا لا أساس لها إلا المنطق. و الأعجب من هذا؟ أن الآلام المدسوسة لا تنتهي بانتهاء حياة الواحد منا، إنّها إرث مضمون من جدّ لأب لإبن.



و إلى أن نختار التوقف لتأمّل ما دأبنا على إخبار أنفسنا به منذ وقت طويل و بطرق مختلفة كل مرة، فلا شيء سينتشلنا من هوة الألم. صوت يتردد شجيا في رؤوسنا، يشبه رنين الأجراس إذ يخفت كل صوت عداه، يذكرنا بكل مأساة مررنا بها و كل إخفاقة تكبدناها و يردد على أسماعنا توبيخه المعتاد، صوت اسمه الخزي.



صوت يخبرك في كل مرة توشك فيها على اجتياز امتحان مهم أنك لن تستطيع اجتيازه فأنت لست ذكيا كفاية،

و إذا أخفقت في تلبية طلب مديرك في العمل، لن يُخبرك بأنك ارتكبت خطأ، بل بأنك لا تصلح لفعل ذلك فأنت فاشل.


سيهمس لكِ، إذا رأيتِ ابن الجيران المتفوّق، بأنّكِ لم تنجحي حتى في ممارسة أمومتِك، لهذا ابنك لم يتفوّق.


سيصرخ في رأسك أنك لا تصلح لشيء، لهذا ينبغي عليك سكب قدح آخر من الخمر الذي أمامك لعلّك تنسى تقززك من نفسك.


سيرنّ بين صدغيك أنّك لا تساوي شيئا إذا لم تصبح الطبيب الذي تمناه والداك، لهذا ينبغي أن تُثبت دوما أنك الأفضل.


سيتردد صداه في الغرفة و أنت تجهزين نفسكِ لحفل زفاف صديقتك: ينبغي أن تكوني مثالية، و إلا فما النفع منك إن لم تكوني الأجمل؟ و مع هذا، فما إن تخرجي بين الجموع حتى تتخيلي كل التعليقات التي سيقولونها لك و كل تلك التي سيكتمونها.


سيهمس لك عقلك أن هؤلاء الذين لم يحصلوا على وظيفة جيدة مثلك، لم يجتهدوا بما فيه الكفاية !


و ستشعر متى أغدق عليك أحدهم بحبّه أنّك لست أهلا لكل هذا الحبّ، و أنّكَ لا تستحق كل هذا اللطف و الاهتمام !


إنّه الخزي :


اعتقادك الراسخ أنّه لا نفع منك إذا خالفت توقعات أهلك و مجتمعك منك، و هذا - أعزّك الله - ليس شعورا بالذنب، فالشعور بالذنب هو اعترافك بأنك ارتكبت خطأ إذا أخطأت و بأن السلوك الذي قمت به خاطئ و هذا لعَمري أمر محمود، غير أنّ الخزي، هو أن تعتقد عميقا - و لو أنكَرتَ هذا - أن ماهيتَكَ خاطئة و أنّ كينونتك مدعاة للشعور بالخجل و العار. و إذ يختبئ الخزي خلف قناع الوازع الأخلاقي و الديني، فإنّه يصيبنا في مقتل قبل أن ننتبه أنّه ليس شعورا بالذنب أو همّة عالية أو أخلاقا فاضلة كما كان يبدو عليه.


إنّه أحد المشاعر التي تنبت في القلوب مثل برعم صغير لا ينتبه إليه أحد، تنمو معنا و تكبر و ترعانا و نرعاها، و ترانا و لا نراها، نزرعها و نحن نتوهّم زرع غيرها و قد نموت و نحن لا ندرك أنّها موجودة أصلا، كأن نحاول أن نضع بذور الهمّة و الأخلاق العالية في أطفالنا، فنحصلَ- يا للعجب- على إنسانٍ مخزيٍّ منكمشٍ يرنّ أنينه بين صدغيه، وإذ تسبب حوادث الحياة المفجعة الكثير من المشاعر الفتّاكة الخفية إذا لم يتمّ التعامل مع تبعاتها طبيّا و سلوكيا كما ينبغي كفقدان أحد الوالدين أو كليهما لوفاة أو طلاق أو سفر أو كالتعرض للتحرش أو التعنيف، فإنّ ممارسات الحياة اليومية و المكرّرة قد تكون أشدّ فتكا و خطورة إذ لا ينتبه إليها أحد، و لا يحاول علاج تبعاتها أحد، بل يتمّ التشجيع على ممارستها كسلوك جماعي وجريمة شنعاء نحرص على إحيائها كل يوم، يكون الهدف منها عادة: التربية و الردع، و الحال أنّها تنجح في الردع غالبا، و لكنها في الحقيقة تسبّب الهدم و التدمير.

و لأنّ الأطلال النفسية لذلك لا تُرى، فلا أحد يعترف بها: "هكذا ربّانا آباؤنا، و ها نحن بخير و ناجحون" و الحال أنّنا ننكر دوما ما قد يفسد ذكرياتنا الوردية، ننكر أوجاع طفولتنا و ننكر أسوأ مشاعرنا لأن الاعتراف- يا للمفارقة - قد يشعرنا بالمزيد من الخزي و رفض الذات، و هكذا فما ننكر وجوده لا يسعنا التعامل معه بل إنّ تأثيره سيكبر و يمتدّ حتى يطال أبناءنا لنبدأ من جديد سلسلة أخرى من الخزي السّامّ.



فيُخاطبُ الواحد منّا ابنه: "أنت حمار" و يقول له "هلّا نظرت إلى فلان و نتائجه الباهرة" و يسأله إذا أخبره بنتائجه المدرسية "من الأوّل؟" و "لمَ لم تستطع الحصول على ذلك أنت أيضا؟" و يتوقع منه بعدها أن يتفوّق، و يتحدث مع إخوته و يقول عن ابنه "لا فائدة منه"، "لقد فشلتُ في جعله إنسانا ذا نفع" و ينتظرُ من ابنه أن يتألمَ من ذلك فيعملَ على تغيير حقيقته التي أقرّها والدُه. ثُمّ يتجاهلُ آلامه و احتياجه بين الحين و الآخر للاحتواء، و ينغمسُ في عمله و عالمه و لا يعلم عن العالم المخيف الذي يواجهه ابنه في المدرسة شيئا و لا يتكبد عناء السؤال عن ذلك و لا التعامل معه.


و ننظر في وجوه الأطفال الضاحكة أمامنا و نصنّفهم أيّهم أجمل، أيّهم أذكى و أيّهم أكثر تهذيبا فيضحك آباؤهم و لا يُنكر أحد منهم الجريمة المُنفّذةَ أمامهم و لا يفعلون حيالها شيئا، و يرتكب أبناؤنا الأخطاء فندهسهم بسَوْرات غضبنا و نعاقبهم أشد العقاب و لا نتكبد عناء توجيههم للصواب و الانحناء نحوهم لنعانق الطفل المرتجف الذي أمامنا و نهمس له أنّه لا بأس أن يخطئ، و أنّ رفضنا لخطأه لا يعني رفضنا له.


و لأنّ حوار الإنسان الداخلي يبدأ في التشكل منذ سنّ مبكرة، فإن كل ذلك مُؤذن بانطلاق نوبات توبيخ الذات و احتقارها و جلدها.


و مع كل الهشاشة التي يعاني منها الطفل، يخرج من بيته ليواجه عالما لا يقلّ وحشية عن الذي واجهه بين أهله و في بيته، أن يُهان إذا فشل في أمر ما، أن يُستهزأ به إذا عبّر عن مشاعره، أن يُسخَر من جسده و وجهه، أن يُنبذ في المدرسة، و أن يتحمّل تعليقات الغرباء و نظراتهم المستهزئة من كل شيء فيه، و إذّاك تلازم نوبات الخزي و العار الطفلَ داخل المنزل و خارجه لتنغّص عليه حياته، فإمّا أن يتوجه للإدمان و تدمير الذات أو يتّجه نحو المثالية في كل نواحي حياته، و أيّما كان مقصده، فلن يشعر بالرضا عن النفس و لا الطمأنينة الذّينِ ينشُدُهما مادام يعاني من جَلد الذات المتواصل.


و لأنّ صناعة الخزي صناعة تتوارثها الأجيال و تستميت في الدفاع عنها ككنز، فقد لا يكون إدراك ذلك و محاولة تغييره أمرا هيّنا أو مستحبّا، و لكنّه ضروري.


و لعل أول خطوة نحو ذلك هي أن نعبّر عنه، أن نسمّيه خزيا بلا خجل أو خوف، و بالرغم من أن هذا يبدو أمرا بسيطا إلا أن أعداد الذين يمضون ليلهم في صراع كي نُشيد بنجاحاتهم و تماسكهم و مثاليتهم نهارا لا يوحي بذلك البتّة، ذلك أن الإنكار و الصمت يغذيان مشاعرنا السيئة ولا يزيلانها، و متى أدركنا و سمّينا و اعترفنا فقد بدأنا طريقنا نحو الحرية و هذا أمر يتطلب الكثير من الشجاعة، بعدها تبدأ مرحلة الرحمة و العطف الذَّينِ نمنحهما لأنفسنا كما لو كنا نبذل ذلك لطفل صغير بين أيدينا نعطف عليه و نحاول الذود عنه، و هذا ليس يسيرا لأنّنا في الحقيقة أقسى من يوبخنا و يزدرينا.


ثم من بعد الاعتراف و التسمية و العطف على الذات، يكون البوح و الشرح لهؤلاء الذين يتفهمون ما نمرّ به و يعرفونه و يسارعون لإخبارنا بجملة واحدة قد تختصر علينا الكثير من الألم: "أنا أفهم جيدا ما تمرّ به" و ما يجعل من كل ذلك منطلقا لتخفيف وطأة الخزي و التعايش معه على النحو الذي لا يجرّدنا من هوياتنا و لا يسبب لنا القلق و الخوف، هو أن الخزي يخشى الفضيحة، أليس ذلك تماما ما يحاول تهديدنا به في النهاية، كلّما أقدمنا على شيء نرغب بفعله؟


لهذا إذا أردت هزيمته فتحدّث عنه، لنفسك و لمن تثق بهم، هؤلاء الذين سيخبرونك أنّهم يتفهّمون جيدا ما تشعر به و أنّ مشاعرك لا يمكن أن ينطبق عليها أي حكم مسبق و لا تفسّر ماهيتك كإنسان و أنّها مشروعة و مسموح بها، تحدّث عنه بالرغم من أنّك تخشى مما سيبدو عليه الأمر،أنصت إليه و تحدّث عنه لأنه عندها سيبدأ بالتقلص و ستتوقّف النتوءات الصغيرة التي يُنبتها على الجدار الخارجي لقلبك عن النمو، و ستشعر عندها بالحرية.


تقول برينيه براون، باحثة معاصرة متخصصة في "الخزي" أنّ الصمت و التكتّم و إطلاق الأحكام على النفس و على الآخرين هي ما تغذي الخزي و تنمّيه، لهذا إذا أردت التحكم بمشاعر الخزي فحدّدها و تحدث عنها ثم واجهها بالعطف و الرحمة، فالعطف هو الترياق المناسب للخزي.


و بالرغم من أن كل ذلك فعّال مع مشاعر الخزي و العار، إلّا أنّ النتائج الوخيمة لهما كالاكتئاب و الإدمان و السعي نحو المثالية و غيرهما، قد لا تزول بسهولة مهما اجتهدنا، إلّا أن نتلقى المساعدة من مختصّ، يتفهّم ما نمرّ به و يجيد انتقاء أفكارنا و توجيه أفعالنا و ممارساتنا اليومية نحو حياة أقل قلقا و أكثر هدوءا و سلاسة، لهذا متى أدركت أن بعض مشاعرك السيئة تعيق استمتاعك بحياتك فلا تتردد أبدا في قصد عيادة مختصة.


الخزي موضوع محرّم، لا نجد الشجاعة لنعبر عنه و لا نشعر بالحاجة لفهمه و فهم ما يدفعنا للشعور به أساسا، ولكننا ما لم نفعل ذلك، فسنضل تحت وطأته نحاول أن نكون شخصا لا يُشبهنا.




و هذا حديثي لك، نبأ يشبه اليقين.







المراجع:


  • نعمة عدم الكمال - الجرأة بعظمة: برينيه براون - Brené Brown (باحثة اجتماعية في علم الشعور بالخزي)


  • علم الشعور بالخزي و علاجه: جيرالد فيشكين - Gerald Fishkin (طبيب نفسي مقيم في كاليفورنيا)
إقرأ المزيد من تدوينات شيماء صميدة - مُهْجَة

تدوينات ذات صلة