ما الذي خلّفه فينا هذا العام و ما الذي أخذه منّا ؟ هل كان ثغرة في التاريخ ؟ هل خسرناه نهائيا من عدّاد أعمارنا..أم كسبناه؟
لطالما كان صعبا على الإنسان وصف ما يتذوقه بأكثر مما خُصص لهذه الحاسة من كلمات قليلة، فما هو حلو لا يمكن أن تصفه إلا بالحلاوة و ما هو حامض لا تجد كلمة أخرى أبلغ من الحموضة لتنعته، و مع هذا لا تبخسنا هذه الكلمات لنَصِف ما سواها بها، و هذه مفارقة عجيبة!
قد لا يجد الإنسان أبلغ من المرارة ليعبر عن حجم خيبته و إحباطه و ألمه، الذي و إن كان ذا نفع شديد له بعد حين، إلا أن لذاعته لا تزيلها هذه الحقيقة و لا تخفف من آثارها.
عبقري من وصف ألما كهذا بالمر لأول مرة!
تزول المسببات و يبقى الأثر، يعبث بعقل صاحبه، و يذكره بالمرارة كلما حاول تذوق غيرها..
هل من الإنصاف وصف هذا العام بالمرارة؟
أيمكن القول أنّه كان عاما مرّا؟
مليئا بالفقد الذي يترصدنا و نترصده، يسير إلينا حثيثا و ننتظره؟
كان مليئا بالإحباط لكل الذين أجلوا خططا كثيرة بسببه، لكل الذين اعتادوا أن يفروا من جحيم بيوتهم إلى بهرج مكاتبهم و مدارسهم فأحبط منافذهم و أقعدهم مع سجّانيهم، لكل الذين انتظروا طويلا هذا العام لينقذهم فصفّدهم، لكل الذين توقعوا أن تزهر مشاريعهم هذا العام و تثمر، فكسدت..
لكل هؤلاء أقول: رفقا بأنفسكم.
لم تكن ظروف هذا العام خطأ أحد، فالأشياء تحدث بالرغم من كل خططنا و رغباتنا، و لا سلطة لنا عليها و لا قدرة لنا على تغييرها مهما شعرنا بالضغط و حاولنا مواصلة الحياة كما لو أن شيئا لم يحدث، فالحرب العالمية الثانية لم تكن في خطة أحد، و لم يعلم أهل سومطرة أن تسونامي سيأخذ منازلهم و سيحمل معه أهاليهم و أحلامهم إذا مرّ.
تخرج الأمور عن السيطرة و تحدث الأشياء التي لا حول لنا على تغييرها و لا قوة، و بالرغم من أن تقبل ذلك و الاستسلام له أمر صعب و نرفض فعله، إلّا أن المقاومة و الإنكار و السخط لا يزيدان إلا من صعوبة تخطينا له، فتزداد مرارة ذلك كلما قاومناه.
لهذا أعتقد أن أول ما تعلمتُه هذا العام هو الاستسلام. الإستسلام لعنف العاصفة و التسليم لجموح البحر. كل ما رفضتُه و قاومتُه بشدّة انتهى به الأمر باستعبادي و تعذيبي، لهذا لا بأس، لا بأس إن فسدت خططكَ، فأنت ناج في النهاية من كل مآزق هذا العام، و مهما كان إنهاؤه صعبا و شاقّا فقد أنهيته لامحالة!
أنهيتَهَُ و أنت تدرك الآن أن الصحة فعلا تاج فوق الرأس، و أن أعداد الذين أصابهم هذا الداء و عدد الذين أنهى حياتهم كاف لتعلم أنّك محظوظ و انّك قد لا تكون محظوظا أمام داء آخر إذا أهملت الاعتناء بصحتك مرة أخرى.
أنهيتَه و أنت تعلم الآن أن العائلة ليست أمرا عرضيا أو بديهيا، بل أمر قد لا تملك رفاهية الحفاظ عليه دوما، لهذا كل ساعة معهم، و إن كانت مختلسة من جدول مزدحم، هي كنز و نعمة، و لولا أن أجبرنا عليها، لما حضينا بها هذا العام..
أنهيتَ هذا العام و أنتَ تعلم الآن أن اليأس غاز سام، لا تلمحه و لا تشعر به إذ يدلف رئتيك، ولكنه يرديك قتيلا على حين غرّة، و أن الأمل ليس يسيرا على الدوام، و لكنه أكثر شحا إذا كان كل ما يحيط بك هو الأخبار البائسة صائبها و كاذبها، لذا فمن الملحّ القيام بإعادة تأهيل ذهني، و إن كان ذلك ممكنا بإمضاء أيام بدون شاشات أو وسائل تواصل اجتماعي، فهو أشد إلحاحا إذا كان مصدر التشويش و اليأس هو الإنسان، الإنسان القريب منّ نفوسنا، النافذ إلى محيطنا، الذي لا ينفك يستنزف من قلوبنا و طاقتنا..ألم تكتشف بعد أن أكثر الأشخاص إحباطا و هدما هم أيضا هؤلاء الذين لم تستطع الاعتماد عليهم عند أشد الأوقات حاجة للتواصل الإنساني و للعاطفة؟ لهذا لا تتردد في رسم حدودك، و لا تتوانَ عن وضع المسافات و درء من يجب درأه عن حياتك.
و إذ يخفت الضجيج حولك بعدها و تهدأ أفكارك و تتحرك مشاعرك على مهل، ستدرك أن الأمل وليد ليلة واحدة، تطوي كل ما سبقها من ليالي السراب، لهذا لا ترمِ سيفك حتى ينتهي النزال، ولا تستدر قبل أن تسكب دلوك الأخير على النيران..
لقد أنهينا هذا العام و نحن نؤمن الآن أن أثمن مورد هو الإنسان، و أن كل ساعة نمضيها و نحن نتعهد هذا الإنسان و نرعى علاقتنا به هي استثمار رابح، فهؤلاء الذين سهروا على علاج المرضى و هؤلاء الذين أصروا على إيجاد العلاج فأوجدوه و هؤلاء الذين آنسوا وحدتنا و وحشتنا بطرقة باب، و هؤلاء الذين لم يقعدهم الوباء عن إعانة إنسان، كل هؤلاء قد بَنيناهم فأحسنّا البنيان.
فهل خسرنا هذا العام نهائيا من عدّاد أعمارنا..أم كسبناه؟
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
"لم تكن ظروف هذا العام خطأ أحد"
مطَمْئنة جدا هذه العبارة خاصة في زحام الانكسارات و الخيبات لهذا العام