لم يظلمنا الله لكننا ظلمنا أنفسنا فضاقت بنا الأرض بوسعها...
"حين تخون الوطن لن تجد تراباً يحن عليك يوم موتك، ستشعر بالبرد حتى وأنت ميت "وكم صدق غسان كنفاني حين بهذه الكلمات انطلق لسانه وأسعفتُه الكلماتُ التي كانت دوماً دموع عينيه التي ترفض أن تترك وطنها في عينيه.. كيف يخونُ المرء نفسه، كيف يبيعُ الإنسان قلبه، كيف يرضى العاشق أن يتنازل عن معشوقة قلبه، كيف يُخانُ التراب الذي إليه انتسبنا، كيف يهون الطفلُ لمن حملت به تسعاً وأنجبته وهنن وربته عُمرا، كيف للروح أن تقتل الروح، وكيف للخذلان أن يطغى ويفوز؛ كيف تُباع الأوطان بالقروش، وكيف يُقبلُ بالتساوم على أرواح الأطفال، كيف تُعقدُ المؤتمراتُ على أنقاض الشهداء، كيف تُفاوض من يقتل ويسلب ويأسر وينهب دون حق أو حتى شرعية أو قانون، وأي قانون يرضى أن تعيش في وطنك مهدد، غير مرغوب، كيف تُعطى الحقوق لمن لا يملك أن يأخذ وكيف يُعطي من لا يملك، أوليست الأرض لنا ونحن أصحابها، فكيف تبدلت الأدوار وأصبحنا في أرضنا ضيوف، كيف لزمرة خيبر أن تستبيح حقوقنا وأهلنا وحدودنا وأرضنا ونحن نكتفي بالحضور، كيف هانت علينا أنفسنا فماتت فينا النخوة والعزة وحين نهض جزءٌ منّا ليدافع عما تبقى منها بتنا عليه كما حرسُ الحدود، زدنا الحصار عليه، حرمنا أطفاله الدواء والعلاج والحياة، سلبنا أمهاته الفرحة وحكمنا عليه بالخيبة رغم العز والكرامة والرضا الذي يملأ قلب أم زفت ولدها شهيد، خيبة الروح للروح ألسنا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر، وإن أسقطنا فرض الدفاع وحماية الثغور بعد أن حملوه عنا كيف أجهضنا فرض الأخوة وواجب الحقوق وقانون الإنسانية؟! كيف يخون الإنسان بلاده؟لله دُرَّ بدر شاكر السياب الذي قال :" أيخون إنسانٌ بلاده؟ إن خان معنى أن يكون فكيفَ يمكن أن يكون؟!"كيف نملك أن نقول أننا نعرف قيمة الحب أو كيف يكون؟ فما بين حب وحب وعشق وعشق فإن حب الأرض والوطن يجعل حبك لكل الأشياء نقياً أبيض صافياً، فأي حب نتحدث عنه أو نفخرُ به أو نرى أننا نفهم معناه، أي حب هذا وأساسُ الحب قد فقدناه؟!عائشة طفلةٌ بعينين تشبه القدس بجمالها بوجه ملامحه من الجنة خُلقت، عائشة طفلةٌ حين تنظرُ إليها ترى القدس وقد حررت، ترى الأبواب للمصلين قد فُتحت، ترى العصافير تغني للنصر والحُلم طربا، ذنبُ عائشة أنها وجدت في زمن الذل، في زمن نُساوم فيه على أرواح أطفالنا، على طفولة أبنائنا، في زمن نصفق فيه للعدو وننحني احترام، في زمن تأتينا الأوامر فيه ممن لا يملكون الشجاعة ليواجه حجرا تحمله أيادي الصغار وهم الذي تحمل ايديهم أعتى السلاح ألآ شُلت أيديهم بقدرتك يا الله، عائشة ولدت في زمن ما عاد فيه عُمر ولا صلاح، عائشة طفلةٌ لم تكمل عامها الخامس شلها ذلنا قبل أن يشلُ قواها المرض، عائشة إبنة عزتنا المتبقية إبنة آخر حصوننا ضدد الظلم والمهانة، عائشة التي ماتت من شدة الوحدة لا من قسوة الورم الذي احتل خلايا دماغها، ماتت لأننا جبناء لا نملك أن نزود آخر خطوط كرامتنا بالدواء والمستلزمات الطبية للعلاج، ماتت لأننا لا نملكُ أن نفتح المعابر ولا نكسر الحدود والحواجز لتتلقى العلاج بوجود والدتها التي أكلت المرارة قلبها حزنا ولا والدها الذي كسر ظهره عجزنا، ولا إخواتها الذين شهد موت جنتهم لدناءة حالنا الذي بات يُعيب ويؤلم، عائشة التي لم تكن تريد إلا حضن أمها، دفء جدتها، لمسة والدها، أصوات إخوتها حولها، عائشة السرطان من قتلها بريئ هي ماتت لأننا ما استطعنا أن نعطي طفلة حق العلاج والحب والسند ممن هم لها قلب وروح وونيس، عائشة التي رفض الإحتلال بسلطة نحن من منحه إياها أن يسمح لوالدتها أن ترافقها في رحلة تُحارب فيها وورم إختار دماغها ليعيش فيه وحين تمسك قلب أمها بإمل أن تعود عائشة لها قبلت لها الرحيل، لتعود إليها قطعة من قلبها من جديد عائشة عادت ولكنها عادت لتموت بأرض الوطن، بأرض العزة والكرامة فالموت بالغربة موجع والبرد هناك قاتل وحتى التراب في غير أرض الوطن لا يملك أن يدفء جسدها الصغير، عائشة التي ما قتلها الورم قتلتها أمة المليار ونصف المليار حين عجزت عن أن توفر لها سيارة إسعاف تعيدها لحضن أمها وأبيها وإخوتها، فماتت وموتها جريمة سيسألنا الله عنها ويا ويح قلوبنا من يومٍ عظيم، يوم نقف أمام الله ليسألنا ولا نعلمُ كيف لنا أن نُجيب ولا كيف لنا أن نداري عارنا وذنبنا المخزي، كيف سنقف أمام الله؟ وماذا سنقول له؟هل نخبرهُ بأن أمة المليار ونصف المليار لم تستطع أن تحميّ عائشة ولا أن توفر لها علاجاً بجانب أمها؟، أم أن أمة المليار ونصف المليار كانت مشغولة في المؤتمرات وصفقات الذل ودفع الأموال للمحتلين لشراء رضاهم،؟ أم أن هذه الأمة في سبات عميق ولن يوقظها ألف عائشة ولا حتى مليون،؟
أعتذرُ منك يا عائشة فلقد أسرونا بضعفهم وأحاطونا بشباك الهوان، فلا همَّ لهم إلا أن يحفظ عروشهم وكراسيّ ملكهم وأرقام حساباتهم حتى ولو كان الثمن هو وجعك بل لو كان الثمنُ وجعُ الملايين منك يا عائشة، أصبحتن كثر يا عائشة؛ فما باتت غزةُ فقط المحاصرة، بتنا جميعًا محاصرين ففي الشام كثيرات وفي اليمن والعراق ومصر الكثيرات ممن يُشبهنك، لقد بتنا نموتُ بحبل الذل الذي أحكمناه حول اعناقنا، ولا نملك إلا الإعتذار عسى أن تسامحن ضعفنا وتتجاوزن عن عجزنا..
جميعنا يا عائشة أمواٌت محاصرون وما لنا إلا الله ندعوه عسى أن يُعيد فينا عمراً وخالد وصلاح والجراح أبو عبيدة، اخبرن الله عنا وهو العالم، اغفرُ لنا عجزنا أمامه وهو الرحيمُ بنا، أرجو منهُ أن يعجل بالفرج وهو وحده القادر..
تعبنا يا الله وما لنا من دون رحمتك كاشفة
"فليس أسوأ من سقوط الأقنعة إلا بشاعة وذمامة وجه لطالما رأيناه جميلا.."
"النسيان لا يعني أن لا نتذكر، بل نتذكر ولا نتألم"
أما نحن نتذكُر ونتألم ولا يستهدي النسيانُ لعقولنا سبيل، فاللهم رحمة تنتشلنا من كل هذا الألم، فالروح من فرط الألم تموت.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات