عن خيبة وطن يعاني أمام أنظار الجميع ولكن قد أسمعتَ لو ناديتَ حي ولكن لا حياة لمن تنادي
سألتها مرةً: ما أخبارُ الوطن؟
شفاهها انفرجت كأنها تضحك وقالت: أي وطنٍ؟
نظرتُ إليها وقلت: وهل للمرء عدةُ أوطان؟
خيم الصمتُ وعمّ المكان، صمتٌ خلفه ضجيجٌ وصخبٌ يصمُّ الآذان، تنهدت وكانت كمن يُجاهدُ ليخرج من صدره الهواء، هواءٌ مسموم ونفسٌ يشبه لحظة طلوع الروح
كأن الكلام في داخلها محبوس وكأن الوجع في تنهيدتها أدمت ما تبقى بها من روح، لامستُ يدها لعلي أعيدها لعالم ينسجمُ فيه الجسدُ والروح بعيدا عن ذكرياتها التي تزيدُ الضغط على الجروح والحروق التي ما شُفيت، لمسي لها جعلها تنتفض وكأن ماس كهربائي أصابها، سألتها: ما بكِ يا وطن؟
ضحكت ضحكةً غطتها الدموع، تكلمت وهي التي في صمتها كل الحروف قالت: الوطنُ سلبوه، الأرضُ بالدم تلوثت، لم تعد تكفينا القبور، في بيت كلٍّ منا قصةُ أم مكلومة ودمعةُ أبٍ محزون، داخل كلّ منا غائبٌ لن يعود، تحت الأرض ملايينُ الجثث التي اختلطت ملامحها فلم يعد يعرفُ الأب إبنه ولا الإبنُ أباه، شهاداتُ الوفاة أصبحت تفوقُ المواليد، الجامعاتُ أصبحت فارغة فكل من فيها أصبح خلف القضبان بتهمة الخيانة والتآمر على سيادة الرئيس، الأحلامُ باتت أسيرة تهمٍ حتى أصحابها لا يجدون لها تفسير، خلف القضبان همومٌ لا تكفيها الحروف، قصصٌ للبنى ومنال وهاجر وأيوب وهشام ومحمد والوليد، قصصٌ أبطالها عذب بأبشع تعذيب والتهمة خروجٌ عن الخطأ وتمردٌ على المعصية ورفضٌ للهمجية وحقٌ بالحرية وشعاراتٌ قصدوا فيها أن يعيش الوطن لا أن يموت ويباد ولا يجدُ المجرم من يعاقبه على بشاعة أفعاله وقبح جرائمه...
سكتت وعيونها بالكلام تفيض، أنا التي لطالما آمنتُ أن الكلام لا يعبر عن المجاور وأن من عاش الوجع ليس مثل الذي سمعه أيقنتُ من حديثها أن الجرح كبير وأن الخيبة تدمي الفؤاد وتتركه جريح ينزفُ ما فيه، كلامها أعرفه من نشرات الأخبار ومواقع التواصل الإجتماعي وأخبار الناشطين ولكن أن تسمع الألم بصوتِ صاحبه يجعلك تبكي نفسك قبل أن تبكيه، تبكي عجزك عن نصرة مظلوم ما أراد يوم إلا أن يحيا الوطن لنحيا فيه، دموعي من عيني تساقطت لتنقل عجزي وقلة حيلتي وأنا التي أسمع ولم أعيش، إقتربتُ منها وجدتها تبتسم بسمةً يكسوها الألم تنظر إلي نظرة تكسوها الخيبة بمن لطالما قلتُ لها أنهم لها إخوةٌ وسند، بصوتٍ أجهدهُ الألم قالت: إخوةُ يوسف كانت حجتهم الحب والرغبة بالعدل فما حجتُ إخوتي الذين شاهدُ الأرض تُحرق والوطن على من فيه يُدمر؟ حقوق الإنسان التي لطالما أخبرتني عنها ألا يوجد في نصوصها ودستورها من يضع للطاغية حد ولمأساة الوطن نهاية؟ دول التقدم ودعاةُ الديمقراطية ألا يملكون تصريح يخرج المساجين الذين طال عليهم الظلم؟ لماذا كل هذا الألم؟ ما الذي يجعل من الإنسان وحش بشع؟ ما الذي يدفع شخص ليعيش بوجهين؟؛ خلف السجون يعيشُ السجان متجبر وكأنه يملكُ الأرواح، يحدد من يبقى ومن يجب أن يندثر، ولكن حين يحادث أهله يعودُ إنسان يشبهنا جميعا، له حياة، لديه أحباب، يشعر كما نشعر، رباه على هذا التناقض ما أبشعه وأقبح صورته! نحنُ البشر وحوش لو أطلقت لدمرت كل شيء...
كانت دموعها تزدادُ غزارة، كانت تتحدث وتبكي، كانت كمن من الألم يتقيأ قلبه.
تابعت بجهد محاربٍ يحارب الوجع الذي غرسوه فيه: هل أخبرك عن كنان الطبيب الذي كان يحلمُ بالحياة، كنان الذي أجبروا زوجته ومن يحب على تركه لأنه سيبقى سجين مدى الحياة؟ هل أخبرك عن الجثث التي شوهت وتلاشت معالمها، هل أحدثك عن منال التي اغتصبت وماتت من كثر ما شعرت به من ذل وعار هم أحق منها بأن يحملوه، هل أخبرك عن جوري التي استخدم معها أبشع أساليب التعذيب التي تحول الضحية لجاني يكره نفسه، هل أخبرك عن أنس الذي حتى غربته ما جعلته ينسى وجع الوطن ومرارة من عانوا من بطش من يدعي الشرعية، هل أحدثك عن يزن الذي فضل الصمت ليس رضا بل لأن الوضع بعد الكلام مخيفٌ يُدمي، هل أحدثك عن الأخضر الإبراهيمي والطماشة التي توضع على عينيك فلا تبصر بعدها إلا العذاب، هل أحدثك عن ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة أو التسع سنوات حين اغتصبوه وصوروه وبالصور عذبوه، هل أحدثك عن الجثث وعددها التي لا تحصيها الإحصائيات، هل أحدثك عن شعور أن تتمنى الموت لأن الحياة باتت معقل وحوش انتزع من قلوبها الرحمة، هل أحدثك عن شعب نصفه في المقابر ونصف منه لاجئ ونصفُ في السجون قابع ونصفٌ من الخوف صامت، هل أحدثك عن شعب كل ما في الدنيا من أطباء ومعالجين نفسيين قد يعجزون عن محو الحرب من ذاكرتهم والأهم من قلوبهم التي عانت وعانت وجرحت وهانت، عن ماذا أحدثك فالقلبُ تملأه الخيبات، والوجع يُسكر حتى يجعلك من الألم تهرب لعل الأحلام تحمل شيئا يغير هذا الحال؟! عن ماذا أحدثك فهل بقي بالوطن ما تصفه الكلمات؟.
صمتت ثم قالت: يا أسفِ على الوطن الذي باتت الكلمة فيه تجعلك تُباد، كل ما أردنا هو وطن نحقق فيه المعجزات، وطن لنا فيه كلمة هدفها البناء، وطنٌ نرفعُ شأنه بالعلم والحرية والحب بين جميع الأوطان، ثورتنا كان هدفها أن يعيش الوطن لا أن يصبح ركام ونصبح نحن تحت الأنقاض، هل الحرية مكلفةٌ هكذا أم أن الخيانة باتت ماء من يسمون أنفسهم أصحاب الحكمة والقرار؟
صمتت وما الصمتُ إلا تتمة الكلام💔
هل تستحقُ سوريا كل هذا الألم؟
وهل تستحقُ أوطاننا أن تهدم فوقنا فقط لأننا قررنا البناء والتجديد؟
هل الكرسي أغلى من دماء الأطفال؟
وهل الشرعية تقضي بكل هذا الدمار؟
يالا خيبتنا نحنُ الذين كل ما أردنا أن تحيا الأوطان.
#جروحٌ_لا_تملكُ_وصفها_الكلمات
#اللهم_سوريا_وأهلها
قصصٌ سطرت على الأوراق لعلها توقظ ما تبقى من ضمير أمةٍ ضاعت شامها ومصرها ويمنها وعراقها، وقدسها ولا ندري من الذي سيكون القادم، فاللهم لطفك وعونك لنا نحنُ الذين لا نملكُ إلا الدعاء
#كتاب_بيت_خالتي
كتابٌ يحكي ما وصلنا له من عار، قصصٌ تبكي القلب وتوجعُ من يحمل ضمير لم تمتهُ الظروف والأعراف والأطماع.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات