لا يمكن لأمّة أن تنهض وتزدهر دون قيم تحكمها، وقيمة الاحترام بكافّة صوره ومعاييره إحداها. لذا لابدّ من ممارسته بفنّ ليصبح فنّ الاحترام.
هل خطر ببالك يوماً ما أن تلجأ إلى أحد معاجم اللّغة العربيّة، وتبحث عن المعنى اللغويّ لكلمة "فنّ"، ومن ثمّ تخلُص إلى تعريفها الاصطلاحيّ؟
إنّ الفنّ: هو مهارة يحكمها الذّوق والموهبة، وهي كلمة تُطلق على جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة مشاعره وعواطفه وأحاسيسه؛ كعاطفة الجمال والشّوق وغيرها، إذ يستخدمها لإيصال فكرة أو تعزيزها، وأحيانًا لإحياء عادات وتراث قديم، ولربّما للتّعبير عن الأنا وموجوداتها، حيث يُلقّب صاحبها بالفنّان.
إنّ عالم الفنون عالم واسع لا يمكن تضييقه أو تأطيره؛ لكن ثمّة مجالات محدّدة ارتبطت كلمة "الفنّ" بها بشكل لا إراديّ بذهن المستقبِل، فكان لها الحظّ الأوفر من الانتشار؛ كالفنّ التعبيريّ، والفنّ التجريديّ، والفنون الأدبيّة مثل: النثر والشعر، والفنون المسرحيّة والسّينمائيّة، وما يقاربها من فنون تشكيليّة؛ وهي الفنون المرئيّة من الرّسم والنّحت والفنون المعماريّة، وغيرها من الفنون الذائعة. أمّا الفنّان فهو الشّخص المخوّل بالتّفنّن فيما أتى به من إبداع ومهارة وابتكار، وإبراز أعلى درجات التّفوّق والإتقان والحِرفيّة في موهبته المشهودة. فكلّ عمل إبداعيّ حِذْقٍ في أيّ مجال يتخلّله الخَلق والصّنعة، يرتقي به صاحبه إلى الجمال آخذاً معه المتلقي إلى عالمه الزاخر بالأحاسيس المرهفة، والخيال الواسع اللامحدود، يسمّى فنًّا.
أمّا اليوم فقد أصبحنا نوظّف المعنى اللّغويّ لكلمة "فنّ" في مجالات أخرى غير معهودة بذلك؛ مثل: فنّ التّعامل مع العملاء، وفنّ تقديم الأطباق، وفنّ "الإتيكيت"، وفنون الرّدّ على الآخرين، وفنّ اللامبالاة، حتى الوقت أصبحت إدارته تحتاج إلى فنّ ليُطلق على هذا المجال "فنّ إدارة الوقت"، كما باتت الشّركات والمؤسسات والمجموعات عمومًا تتطلب فنًّا في قيادتها وإدارتها لضمان نجاحها. أمَا وقد حوى مفهوم "الفنّ" تعريفًا فضفاضًا اتّسع اتّساع الكون وامتداده، فلا سقف له ولا أُطر تُحجّمه، فلِمَ لا نُلحق مصطلح الاحترام به فيغدو "فنّ الاحترام" ؟ إنّنا بحاجة ماسّة إلى مفهوم الاحترام وتطبيقه بتفنّن في ظلّ غيابه واضطرابه، وتفلّت أسسه القديمة أكثر من ذي قبل، نظرًا لنسبيّته وتفاوته في أحكامه، خاصة لدى النّشء الحديث، فما كان أحد بنوده لدى الأجداد ربما أصبح اليوم مثار هزء وسخرية لدى الأحفاد.
يُعرّف الاحترام عمومًا على أنّه التّكريم والإكبار والمهابة، وهو رعاية حرمات النّفس والآخر والالتزام بذلك، وتجنّب الإساءة واستبدال الإحسان في القول والمعاملة والسّلوك بها. ولمّا كان احترام النّفس أولويّة تسبق أي احترام يتفرع منه، كان لابدّ من إفراده كمعيار أوّل وهامّ من معايير الاحترام وأشكاله الرّئيسة، حيث يعتبر احترام "الأنا" أو الذّات الشّخصيّة المحطة الأولى لتحقيق مبدأ الاحترام ونشره، فلا يمكن أن يُطبّق عمليًّا بشكله الأمثل دون احترام الفرد لنفسه وممتلكاتها من سمات شخصيّة ظاهرة أو خفيّة، وما تحظى به من بصمات ذاتيّة. إذ يفرض احترام صاحبها لها على الغير احترامها وتقبلّها، ومن ثمّ يخطّ حول الأنا خاصّته الخطوط الحمراء التي تمنع الآخر من اختراقها أو النّيل منها، فيتعلّم كلاهما فنّ احترام الآخر باختلافه وفكره ومعتقداته وعقيدته، فضلًا عن احترام شكله ولونه ونقصه، وقبوله جُملة وتفصيلًا كما شاء الرّبّ له أن يكون. إنّ احترام اختلاف الآخر الفكريّ والعقائديّ يشكّل الاختبار الأصعب على الفرد؛ فثمّة عائق نفسيّ وعقليّ يقف في طريقه، فإذا ما تمّ اجتيازه غدا ما دونه أيسر وأكثر قبولًا. ولابدّ هنا من مبادرة جادّة من الآباء والمربّين نحو احترام الفكر الشّاب، وامتلاك عقليّة متفتّحة قادرة على تفهّمه، واحتوائه دون انتقاصه أو مهاجمته، ممّا يوجب بذلك على الشّباب واليافعين مبادلتهم ذات الاحترام، ومراعاة المعتقد القديم. أمّا ما ننتهجه اليوم من تهميش للصّغير لصغره وحداثة سنّه، وتعطيل لفكر اليافعين بإقصائهم وآرائهم فهو مخالف للنّهج المحمّدي ولنهج الصّحابة الكرام من بعده؛ فقصّة وعاء الماء المشهورة تُظهر احترام النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- لشخص الطّفل باستئذانه وعدم تهميشه لصالح الصِّدّيق - رضي الله عنه- ، وهي دليل حقّ على ذلك.
ومن الجدير بالذّكر ظهور مفهوم "احترام الرّضيع" والذي تنادي به مناهج التّربية الحديثة ومختصّو علم تربية الطّفل، حيث يفترضون وجود حرمة لجسد الرّضيع، توجب استئذانه بإعلامه قبل قضاء حاجاته الأساسيّة المتعلّقة به، واحترام رغباته ونموّه المتطور في جميع مراحله، باعتباره نفسًا بشريّة وذاتًا مستقلّة ولو عجز عن الكلام.
أما المعيار الثّالث في الاحترام، فهو احترام الكون بكل ما فيه من كائنات حيّة ولاحيّة. فالطّبيعة لها الحقّ بأن تحظى باحترام الإنسان لها؛ بمحافظته عليها واستثمارها على خير وجه، وشكر الخالق على نعمه وتسخيرها له لإعانته في تحقيق الاستخلاف والعبادة في الأرض. وكلّ كائن حيّ يُرزق في أحضانها مشمول بوجوب احترامه وأداء حقّه، فلا غرابة في دخول امرأة النّار بهرّة حبستها، ومنعت عنها حقّها ولم تحترمها.
إنّنا اليوم نعاني في مجتمعاتنا من تناقص حادّ مخيف في تطبيق وتبادل مبدأ الاحترام بشموليته في السّلم والحرب؛ نظرًا لمحاولات قذرة لاقتلاع جميع بنوده، ونخر غير معهود لأساساته. وهذا يحتّم علينا إعادة بنائه وهندسته بفنّ ومهارة وابداع، وغرسه من جديد بكافّة صوره وفروعه في الأفراد لاسيما الجيل الحديث، ليصبح مبدأً دينيًّا متأصلًا ثابتًا فيهم، وسط ثورة تكنولوجيّة ضخمة وانفتاح عالميّ يجتاحنا، وعولمة مشهودة تعرض أيديولوجيّات مختلفة، كلّها ساهمت في استحداث أو تطوير مفاهيم خطرة تشكّل معول هدم وتدمير لمفهوم الاحترام؛ كالتّنمّر، والعنصريّة، والجرائم الإلكترونيّة، والتّجسس المتطوّر وغيرها من المفاهيم المضادّة والمنافية له.
فإذا ما أدركنا جميعًا أهميّة الاحترام وتفعيله بيننا، بات من الواجب أن نطرق أبوابه الثّلاثة الرّئيسة، ونغوص في فصوله الواسعة العميقة، لنستفيض من تفاصيله التي لا حصر لها؛ فالاحترام كالحِرفة يتفاوت النّاس في إتقانها وأدائها، ودرجة الإيمان بها، وكذلك الإلمام بها وبمقتضياتها، وما تحتاجه من بذل وجهد وتعلّم حتى يصل صاحبها درجة الفنّ والإبداع. فلا غرابة في أن نبتكر "فنّ الاحترام"؛ ففي كتابه "مطالعات في الكتب والحياة" صيّر الكاتب والأديب الكبير عبّاس محمود العقّاد الاحترام علمًا، لاشتماله على مبادئ وأصول كغيره من العلوم. وأورد في كتابه أنّ كلّ طالب علم يحتاج هذا العلم، كما ينبغي عليه اكتسابه بنفسه، وجمع متفرّقه من النّاس والحياة، والاجتهاد في إتقانه وضبطه وتتبّع أجزائه, فلا أستاذ قادر على إملاء قواعده وأحكامه عليه. وأوضح العقّاد المعنى المقصود بهذا العلم بعيدًا عن شوائبه، وما اعتاد عليه النّاس من نفاق وذلّ ومهانة. وأنّهم قلّة الذين يعلمون "علم الاحترام" الحقيقيّ ويُعملونه، ومن يجهل به يجهل في كل شيء، ولو بلغ في العلوم الأخرى مبلغًا عظيمًا. فيا حبذا لو أتقنّا الاحترام وأدرجناه ضمن عالم الفنون الخصب.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
مقال رائع جدا
العنوان جدا ملفت !
عظيم جدا 👏👏👏