وما قيمة الحياة بدون حلم نتتبّعه بتفاصيله إلى أن يتحقّق؟! إذ هو الشّغف الذي نحيا به، والإرث الذي نتركه من خلفنا.


هلّا توقّفت لحظة عن اللّهاث اليوميّ المستمرّ من الصّباح حتى المساء بين أروقة الحياة، لتجيب عن سؤال حاسم قد يفصل الزّمنَ بعده عمّا قبله وكأنّ العمر لتوّه قد ابتدأ، سؤال نتحاشى الاصطدام به فنتوارى خلف واجبات الحياة لنقوم بها كدولاب أُذن له بالحركة منذ الأزل فاستمرّ ولم يقف إلّا بانتهاء الأجل. إنّك تكابد في معاركك الطّاحنة مع الحياة لتحصل على شهادة جامعيّة ومنها إلى وظيفة تقتات منها، ومن ثمّ تهرم فيها - إن لم يسبق قدر رحيلك- حتّى تُحال إلى التّقاعد، ولرّبما تكلّ وتملّ قبل ذلك وتُستنفذ طاقاتك فتُحيل نفسك إلى تقاعد مبكّر تفرّ منها إلى ما هو أسوء، ظانًّا أنّك نجوت حرًّا فتقع في شباك انتظار الموت وترقّبه في كلّ حين. في هذه الأثناء تسأم وتموت عشرات المرّات موتًا بطيئًا قاسيًا نتيجة الشّعور باللاقيمة وانتهاء المسيرة، وتجرّع مرارة العمر كلّه بأثر رجعيّ. وها قد انتهيت أخيرًا من تسديد آخر قرض ماليّ استدنته منذ ثلاثين سنة لبناء أسرتك وإنشاء حياة سويّة، ليستلم الخلف من بعدك ذات السّلسلة اللّانهائيّة من مراحل عيش الحياة الرّتيبة هذه بما تقتضيه، ناسين أّنّها تلك حقوق الآدميّ فيها وليست أحلامه. إن كانت معركتك قد بدأت بالفعل أو هي على وشك البدء أو حتّى حمي وطيسها فتوقّف من فضلك لتفكّر بالسّؤال الفيصل:"ماذا عن حلمك؟".


الحلم هو طموح عظيم وشغف شخصيّ نابع من رغبة جامحة ملحّة وإدراك واعٍ وإرادة صادقة أكيدة تتحدّى بها عقبات الوصول، هو أمنية ثمينة تعانق النّجوم هناك في السّماء يتشبّث بها صاحبها مهما كلّف الأمر؛ لأنّ في تحقيقها تحقيق الأنا وإيجادها، واستقرار الذّات وهدْأَتها، وشعور الفرد بقيمته الخاصّة وأهميّته في هذا العالم.

"إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النّجوم"


الحلم يحملك على الإبداع والابتكار والإنجاز، وتدعمه الموهبة الشّخصيّة والرّؤيا الواضحة، أمّا سبيل بلوغه فبأهداف مجزّأة واضحة ومرنة وقابلة للقياس والتّحقق ومرتبطة بزمن محدّد، فالحلم بدون هدف سيفتقر إلى إنجاز ملموس، وسيبقى خيالًا معلّقًا في الحياة كقطرات الماء في الضّباب تبقى عالقة في الهواء، ويتوهّم الحالم أنّه سيحقّقه يومًا ما ليجده في نهاية المطاف سرابًا.


الأحلام إمّا أن تكون واقعيّة معقولة في مجال ما تحدّدها القدرات الأساسيّة أو أن تكون خياليّة عظيمة لأنفُس توّاقة تتبنّى أحلامًا عليا صعبة المنال، فتراهن عليها بيقين واعتقاد راسخ بما يكفي لجلبها من الخيال إلى أرض الواقع، وتقليل الهُوّة بينهما لتغدو حقيقة مسلّمة. لكنّ جميع الأحلام تعيقها محدّدات كثيرة، وتعترضها حواجز جمّة تُثني صاحبها عن بلوغها، لذا سيتطلب هذا بذل الوقت والجهد الفعليّ، واكتساب المهارات والقدرات اللازمة لتحقيق الحلم، ودعمه بالإرادة الحقيقيّة والهمّة العالية، كذلك الإيجابيّة في التّفكير لاتخاذ الحلم سبيلًا لتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض بالطّرق المثلى. مهما كان حلمك لابدّ أن يكون حلمًا من الدّرجة الأولى وقوده الدّافع الدّاخليّ بكلّ حبّ ورضا. "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس" صحيح الجامع.



وصايا تحقيق الحلم


إنّ خطوات تحقيق الأحلام قد تُدرج في قائمة مطوّلة، والنّصائح تبعًا لها ربّما تكثر وتتشعّب لذا فقد ارتأيت إجمالها في الوصايا العشر لتحقيق الحلم بدءًا من قاع هرم النّجاح وصولًا إلى قمّته، فتمثّل قاعدته الإيمان العميق بالحلم؛ فلولا إيمان "هنري فورد" بحلمه لما استطاع أن يصنع أوّل سيّارة يمكن للطّبقة الوسطى في أمريكا اقتناؤها، ولما كانت شركة فورد اليوم من أضخم شركات العالم في صناعة السّيّارات. من البديهيّ جدًّا أن تؤمن أنت أوّلًا بحلمك الشّخصيّ بقوّة لتتيح للآخرين فرصة الإيمان به وتصديقه. ومن ثمّ تأتي معرفة الأنا معرفة شاملة تفصيليّة بقدراتها وميولها، والغوص في خباياها لاكتشافها والتّنقيب عن قوّتها الكامنة، ومن ثمّ منحها الثّقة وإتاحة الفرصة لها وتوجيهها نحو الهدف، فمن لا يدرك نفسه يعجز عن اختيار حلم يليق به. وهذا يقودنا إلى الصّعود نحو وضوح الهدف والتّركيز عليه لأجل بلوغ الحلم، فلابدّ من الرّؤيا الواضحة ويتأتى ذلك من خلال الإجابة عن سؤال: "إلى أين أو ماذا أريد؟" فبدون إجابة دقيقة صريحة واضحة تخطّ خارطة الطّريق يستحيل المضيّ قدمًا نحو أيّ مكان، وسيغدو المرء ضالًّا بائسًا في دروب الحياة، وأسوء الحال مترنّحًا عابثًا يوجّهه كلّ شيء إلًا أن يكون هو الموجّه لدفّة مركبه، فإن لم يفعل سيّرته الحياة كيفما تشاء، وتخبّطت به في الطّرقات مع من ساروا على غير هدى، وأوقفته مع من وقفوا، وعاش كيفما اتفق كالمعظم يعيش ليقتات ويقتات ليعيش، وفي النّهاية يموت وهو لا يدري ولا يُدرى عنه.


لا عشوائيّة في حياة جليّة الغايات لكنّ هذه الغايات تُنسف وتُذرى في مهبّ الرّيح بلا إرادة وعزيمة صلبة تجدّف أنت بها عكس التّيّار لتتحدى عقبات الوصول وتشحذ الهمّة في الاستمرار.

"ولم أر بعد قدرته تعالى كمقدرة ابن آدم إن أرادا"


فإذا ما عرفت غايتك ومرادك وفجّرتِ الإرداة والعزيمة في أعماقك شعلة الانطلاق بات انتقالك إلى الطّبقة الأعلى من الهرم سهلًا، وقتئذ عليك أن تضع خطّة محكمة، وسلْ جميع النّاجحين ومن اعتلوا قمّة أحلامهم كيف ساروا وفق نهج وتخطيط مسبق، فالخطّة تمكّنك من تركيز جهودك على تحقيق الحلم، واختصار الوقت الضّائع واستثماره لتضع بين يديك أفضل الطّرق الممكنة للوصول إليه، كما أنّ لها أثرًا بارزًا في رفع إنتاجيّة الفرد، وإتاحة الفرصة له في تقييم أدائه وتقدّمه فيما يسمّى التّقييم الذّاتيّ، لكنّ الخطّة تغدو عديمة الجدوى بلا الالتزام بها وهنا التّحدّي الأعظم، فكم هي الخطط التي تؤول عادةً إلى سلّة المهملات بلا تنفيذ ملموس! ولكي تصبح الخطّة فعّالة لابدّ أن تتسم بالصّفات المرجوّة لإنجاحها مثل: الواقعيّة والاتزان والتّدوين والمرونة حيث أنّ الخطّة ليست دستورًا من يخالفه يرتكب خطيئة عظمى لا تغتفر، فالخطط النّاجحة تتضمن خططًا بديلة كتلك المتّبعة في إدارة المخاطر في الشّركات؛ إذ إنّ الحياة في جعبتها الكثير من المفاجآت والعوارض التي تلقي بها في طريق الواحد منّا. إنّ إعداد خطّة ناجحة والالتزام بها يُعتبر جزءًا من المرحلة الأعلى منها في الهرم وهي تنظيم الوقت؛ إذ إنّنا بحاجة ماسّة لإعادة جدولة قائمة الأعمال المطلوبة بحيث تتضمّن تلك الأوقات الضّائعة هنا وهناك لاستثمارها في مناحٍ أخرى يتمّ عادة إهمالها في سبيل تحقيق الحلم والرّكض وراءه ليغدو حقيقة ماثلة؛ كالصّحة والرّوح والنّفس والعائلة لتشغل كلّها حيّزًا في قائمة المهام كي يحيا الفرد حياة سليمة متزنة.


إنّ الوصيّة السّابعة من وصايا تحقيق الحلم تبدو غريبة في ظاهرها فعّالة عظيمة الأثر في باطنها ألا وهي امتلاك مخيّلة خصبة تدعم الحلم وتغذّيه؛ حيث أنّ للخيال قوّة تتغلّب على المادّة وقوّتها، فالعقل لا يفرّق بين الحقيقة والخيال، لذا من الضّروريّ تقديم صورة إيجابيّة عن الحلم للدّماغ، وتخيّله بشكل مستمرّ كحقيقة أكيدة، وزراعته هناك بذرة طريّة يغذّيها إيمان القلب به، هذا سيدفعه ليُترجم على أرض الواقع، فالأفكار مع الوقت تصير أفعالًا، وحقائق اليوم ما هي إلّا أحلام الأمس، فهذا حلم عباس بن فرناس في الطّيران الذي كان ضربًا من الجنون قديمًا بات واقعًا يوميًّا لا مراء فيه. ليؤكّد بدوره مقولة "ألبرت أينشتاين": "الخيال أهم من المعرفة".


لابدّ أنّ تفعيل الخيال في سبيل تحقيق الحلم هو إحدى طرق محاكاته، حيث تمثّل محاكاة الحلم مرحلة عليا في الهرم، يمكن ممارستها بسبل أخرى؛ كالتّطوّع الذي يُكسبك الخبرة ويهيئ لك طريقًا نحو حلمك وقد تسلّحت بأدوات ترفده، كما أنّه يصقل شخصيّتك ويُثريها بما يعود عليك وعلى غيرك بالنّفع، فيُشكّل انطباعًا إيجابيًّا عنك كمبادر فعّال له الأحقيّة في الوصول. إذ يُدرَج التّطوّع ضمن باب اغتنام الفرّصة، هذا الباب العظيم الذي يُعتبر وسيلة حقيقية أخرى لمحاكاة الحلم حيث أنّ الفرصة تُصنَع وتأتي معًا تبعًا لجاهزيّتك تجاهها، هي تُعرض عليك باستمرار ولكنّها أولى بمن أعدّ نفسه مسبقًا لاستقبالها والاستفادة منها، فالفرص تأتي تباعًا لمن يستثمرها ويحسن قنصها. إنّ محاكاة الحلم عن طريق الممارسة والتّجريب بما في ذلك التّعلّم من الخطأ وتحسين الأداء مرحلة هامّة لإنضاج الحلم وتحقيقه بشكله الأمثل.


تكمن الوصيّة التّاسعة في المحاولة المستمرّة والعمل الجادّ وعدم الاستسلام واليأس أو الاستعجال في الوصول، فلتكن صبورًا جلْدًا غير عجول أو متبرّم، فما دمت تملك حلمًا واضح المعالم فلا يهمّ عدد المحاولات الفاشلة التي لم توصل إليه والتي ربما توصل إلى ما هو أثمن منه، ما يهم حقًّا هو البذل الإيجابيّ بذات الهمّة والإرادة، وكلّ مسعى يحسّن نوعيّة الحياة ويغّذي الحلم هو كذلك، وكلّ عمل تقوم به بلا شغف أو تفكير هو روتين قاتل يسري في الرّوح سمًّا فتّاكًا يميتها حيّة، فالرّوتين ثبات مريح للنّفس يُحيلها إلى فقدان الدّافعيّة والرّغبة، ويُعفيها من زعزعة أمنها وانتزاعها من منطقة الرّاحة المحبّبة لها لكنّ تحقيق الحلم يتطلّب تغييرًا فعليًّا مستمرًّا.


تحتلّ الوصيّة العاشرة رأس الهرم؛ إذ تكمن في وجود البيئة الدّاعمة كحاضنة ترعى الموهبة الشّخصيّة، وتدعم حلم المرء لتدفعه قدمًا نحو تحقيقه، لاسيّما إن كان للمرء شريك حلم يشدّ أزره في أيّام عسره، ويواجه صعاب الطّريق معه، ويقاسمه ثِقل الحِمل ويسنده. فإن وُجدت هذه الدّعامة فخير ما كان، وإن لم تكن فلا يستحيل الحلم بدونها رغم أهميّتها وضرورة تواجدها إلّا أنّ الكثير ممّن حقّقوا أحلامهم افتقروا إليها، فاتكؤوا على أنفسهم واستضاؤوا بذواتهم من خلال الحافز الدّاخليّ، ومنهم من خلق فيهم الفقد والعوز تحدّيًا للوصول، وهم أحسن حالًا ممن حاولت البيئة نفسها أن تكون مضادّة لأحلامهم مُجهِزة عليها. لذا فهذه الوصيّة تدعوك لخلق البيئة الدّاعمة المساندة لأحلامك، وذلك بإحاطة نفسك بالإيجابيين أصحاب الطّموح والهمم ذوي شغف في الحياة، ممن يثقون بك وبأحلامك فتكن معهم قادرًا على تبادل الأحاديث عن الرؤى والأحلام الشّخصيّة بكل أمان وثقة، بعيدًا عن المحبطين السّلبيين قاتلي الأحلام.


كن طموحًا شجاعًا مقدامًا تقبل التّحدّي، مستعدًّا لمواجهة المآزق، وحافظ على حلمك الثّمين مشتعلاً مهما حاولت الظّروف والأشخاص إطفاءه وإماتته. كن وفيّاً له ملتزماً به حتى تسنح الفرصة المناسبة لتحقيقه. وتحلّى بالأمل فهو سرّ الحياة، وبادر بتحقيقه بكل قوّة متوكّلاً على الله تعالى فهو وليّه يا صاحب الحلم.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

مقال رائع يحمل الكثير من المعاني الواقعية.... ابدعتي

إقرأ المزيد من تدوينات عائشة حسين نوفل

تدوينات ذات صلة