أحياناً تحتاج لصفعة لكي توقظك , أحد تجاربي الحياتية البسيطة جدا ,قبل 16 عاماً قد تكون إلهاماً لأحدهم
قبل 16 عاما وبعد تخرجي بسنة من كلية طب الأسنان في الإمارات كأي طبيبة أسنان وضعت تلك التوقعات كيف سيبدو مكان عيادتي , بديهياً ستكون لامعة شديدة البياض , تقع في منتصف المدينة حيث يقع أشهر مقهى أسفل مبنى العيادة , تخيلت نفسي كيف سأتناول كوب القهوة من المقهى قبل الصعود لعيادتي , في تلك الأيام لم تكن السوشيال ميديا موجودة لعرض صورة كوب القهوة الفاخر !! تخيلت تفاصيل كثيرة ( أناقتي بالبالطو الأبيض , أطباء وسيمين , مرضى لطيفين ومتبسمين , تفاصيل كثيرة وعديدة. لكن كأي خريج يبدأ الشعور بالصدمة بكمية القوانين المفروضة عليك لتخوض أول تجارب الخبرة لك في العمل , في الإمارات حيث تخرجت طلب مني الحصول على ثلاث سنوات خبرة قبل التقديم لأي وظيفة في مجال طب الأسنان ولأن كليتي كانت اول كلية طب أسنان في الإمارات لم يكن هناك القدر الكافي من القوانين لتنظيم الدفعة الاولى من خريجي الكلية .
حسناً . كان أفضل حل السفر للخارج للحصول على الإمتياز والخبرة وكان أفضل خيار هو (الأردن ) حيث هناك بيتنا , أقاربنا .بيت الجدة الجد وكمية جيدة من الرقابة من الأعمام والعمات والخالات والاخوال !!! وأيضا بالنسبة للأهل بيئة خصبة للحصول على عريس !!
بعد نقاشات عقيمة ومضيعة للوقت مع الأهل لإقناعهم للتوجه للأردن وافقوا !! ( استغرب لماذا الأحتياج للإقناع وليس أمامي أي خيار آخر غير الاردن للحصول على خبرة) .
لا أنكر منذ طفولتي كان لدي ذلك الحلم أن أعيش لوحدي !
أجل كان من ضمن قائمة أحلامي أن أجرب كيف ستكون أريج تقرر ما تريد ! كيف هي الحياة بدون قرارت خارجية , هل أنا مهيأه فعلا لهذا القرار ؟يا ترى كم مرة سأخطيء ؟ هل سأرتكب المصائب لوحدي ؟؟ لكن فجاة اكتشفت أنني لا أعرف كيف هي الحياة في الخارج ؟؟ صدقاً !!
أن كنتم تعتقدون أنكم لمجرد الولوج للجامعة أصبحت (حريفي) خبرة في الحياة فأنتم مخطؤون ,
كشخص مقيم في دولة خليجية في ذلك الوقت كانت حياتي بيتوتية جداً , قلة العلاقات الإجتماعية جعلتنا أقل دخولا ًفي نقاشات جدلية , وصداقاتنا بالرغم من تعدد الجنسيات تبدو صداقات منمقة وقتية
كانت الدراسة هي الأساس , تربينا أن الدراسة هي سبب "وجودي حتمي " لولاه أنت لست على قيد الحياة , كانت هي محور النقاش الدائر في البيت دوماً وكأنها الشيء اللوحيد الباقي على هذا الكوكب وطبعا لا بأس من المشاركة في بعض الهوايات وخاصة لو كنت مميزاً فيها.
كانت حياتي هادئة , تخلو من المنغصات ( الحقيقة) أكبر همومي الدراسة وإرضاء الصديقات . كل شيء جاهز في حياتي , طعامي , مصروفي ملابسي ,مواعيد الخروج للتنزه , مواعيد السفر , كل شيء يبدو جميلاً سالماً مريحاً للأهل أيضاً .
كل ذلك سيختفي بين يوما وليلة عند ركوبي الطائرة متوجهة لأول تجربة (غربة) في نظر أهلي !!
حسنا أين الوظيفة !! بدأت رحلة البحث عن عيادة تناسب ( رؤية أهلي ) لا أذكر أنني شاركت بالبحث ! كانت جميعها اختيارات الأقارب (عيادات في العاصمة عمان جميعها جيدة ظاهرياً ورواتبها مجزية) في نظر الأقارب.
كنت انظر نحو أبي في كل مرة يذكر رقم الراتب وأتساءل ! هل هذا راتب أم مصروف , والدي لم يكن يكترث بأمر الراتب بتاتاً كان يقول لي في كل مرة : هي فترة مؤقتة الأهم تاخدي خبرة وترجعلينا للإمارات وتقدمي هناك !! ثم يضحك ويكمل كلامه قائلاً : أصلا حنضل نبعتلك مصروف يدوب يكفيكي هالراتب .
في كل مرة أجد فيها عيادة كنت أنظر نحو وجه مدير العيادة وأستغرب لماذا كل هذا التفاخر والتمني وأنت تخبريني برقم الراتب !؟
اقنعني أخي ألا اقارن الرواتب بين الامارات والأردن لأن ما ساحصل عليه سيكون منطقياً وجيداً في الاردن .
كان والدي يرفض كل عيادة ندخلها , فهذه بعيدة , وهذه غير نظيفة وهذا المدير غير مريح وتلك تقع في منطقة معزولة , وكنت كأريج الغير قادرة على اتخاذ أي قرار أوافق أبي على أي شيء ( بالرغم أنه في كل مرة كان ينهي الزيارة ويخبرني أن الخيار بيدي ) تلك الجملة كانت ترعبني !! فلم أتعود على تجربة اختيار شيء مصيري !!
بدأ العد التنازلي لرجوع أهلي للإمارات وازداد قلقهم لعدم إيجاد عيادة مناسبة , إلى أن جاءت تلك المكالمة من صديق العائلة وطبيب أسنانها يخبرنا أن هناك عيادة مناسبة جداً وهي مشروع تبرع من اليابان للمناطق الأقل حظاً في الأردن في منطقة تدعى ( ضليل ) لم أكن قد سمعت بتلك المنطقة من قبل لكن تعابير الامتعاض على وجهه عمي جعلتني أتردد من قبول حتى فكرة زيارة المكان !! والدي كان حائراً يبدو أنه كان يحاول تذكر مكانها الجغرافي وصوت أمي في الخلف و هي تقول : قريبة من عمان يا ترى ؟؟
صديق العائلة وطبيب أسنانها الدكتور "هايل" تدربت عنده في سنواتي الاولى في أحد أجازاتي الصيفية في الأردن كان رجلاً لطيفا ً ولبقاً , تقبل وجودي بكل صدر رحب لأتدرب في عيادته ,كان يعلمني أخلاقيات المهنة قبل مهامها , كنت أرتعب في صباحات الأحد عندما يتركني لأتعامل مع مرضاه لوحدي عندما يتوجه للصلاة في الكنيسة ,وكان كل مرة يرجع من الصلاة متبسماً مع كيس الكعك ليخبرني انه شاهد أحد المرضى في السوق واخبره انه مبسوط مني !
عندما أخبرني الدكتور هايل بأمر العيادة لازلت أتذكر كلماته عندما قال لي (هذه العيادة تليق بك ) ! لم أفهم ماذا كان يقصد وقتها ؟
"عيادة تقع في منطقة نائية لم أسمع عنها غير أنها أحد المناطق الأقل حظا وفقراً في الأردن بدون خدمات أو مواصلات سهلة ،كيف تليق بي ؟؟"
( تبرع من مشروع ياباني ) تلك الكلمة السحرية التي جعلت أهلي يتقبلوا فكرة الذهاب لزيارة العيادة , وثوق عمي بالدكتور هايل أيضا جعله يتقبل الفكرة , التحدث أمامي طوال الوقت عن مواصفات المنطقة الغريبة والمثيرة جعلني أتحمس أن أقبل لحضور المقابلة , فجأة كان هناك مشاعر سحرية في بيتنا وشعور غريب بالإطمئنان . أما باقي الأصدقاء والأقارب كانوا مستغربين من القرار المبدئي وفي كل مرة أذكر أمامهم كلمة (ضليل ) كان البعض يضحك وينظر نحو ي بشفقة أو يفتح عينيه بذهول وكأنني متوجهه لمصير مريب ! .
ماذا يوجد في ضليل ؟؟ لتجعل الجميع يشعر بالصدمة !!؟؟
يتبع
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات