ماذا تقول عن الألم ياصديقى؟

أن تتآكل أيامك، وتشعر فيها بغصة فى قلبك وضيق، تفر منه حينًا، ولا تلبث إلا أن تعود إليه بضعفِِ حينًا آخر، فتذهب وقتها بوتيرة المنهك إلى المقهى المحبب إليك، لتحتسى الشاي فى هدوء ولتمنطق بعضًا من الألم الذي تشعر به.


فى يومٍ ما، تطعمت شرفات أفكارى بيقظة جديدة، وشعارات أُخرى أذابت حدة آلامي، فكانت كبديل لقطعة السكر فى فنجان الشاى.

وإليك ماحدث ..


يأتى إلى القائم على الخدمة (العم محمود) ليسألني :

ماذا تريدى أن تطلبى يابنيتي ؟


فأخبره بأنى كعادتي سأطلب مشروبى المفضل -سكر خفيف-

وسرعان ما يأتى إلىّ بفنحان الشاى، فأبتسم له فى هدوء ، ثم أدفن رأسي بين يدي، لأستعيد ذاكرتى، فأبسط بها كل آلامي كما لا أشتهي.


كم تمنيت أن أكون تلك الأرضية السماوية !

خفيفة الروح ، قليلة الشعور بالمعاناة ، متحلية بقدر من التقبل للأشياء التي لا أستطيع تغييرها، فما زال غروبى يؤكد بعدم اكتراثى بالآلام ، وكل ما أفعله أننى أضحك على نفسي بقبولٍ وهمي، لأعيش بإنكاره مهما اقترب منى وصاحت آنات روحى.

ولا ألبث أن أذكر كلمة ألم تلك، إلا وتذكرت كل آلامي، وكأنها اجتمعت معًا لتدندن بضعفي، وتقصيري تجاه أمور كثيرة فى حياتى، فأقضي الليلة فى مسامرة الألم بحنينى لأحلامي السابقة، وتعلقى بأشخاصٍ حولي تخلوا عني، وكلما توغلت فى أفكارى تلك، أخذني آلمي إلى طرقات الشوائب المتقطعة بوجعً بحجم الفضاء، فأشعر وكأني أُهترأ في طرقات سجونه، فأبكى تارة، وأحسُ بالغضبٍ والتوتر تارة أخرى.


وبينما أنا فى هذا، رمقت بعينى فتاة عشرينية كانت تجثم فى الزاوية المقابلة لىّ، وهى تنهى حساب طاولتها، كأنها كانت تبكى وتشرد بعينها ألمًا من خطبٍ ما، لكنها كانت تختلف عني فى أن سكينة ما غشيتها رغم هذا الألم فى عينيها، وسرعان ما تذكرت أن حقًا هذه الدنيا دار إبتلاء...

فيبدو هكذا أننى لست وحدى من أعانى.



أفقت من أفكاري تلك حينما ارتطمت يدى بالطاولة، فسقط فنجان الشاى ، فخجلت كثيرًا وغدوت اغمغم للعم محمود: بأني لم أكن أقصد ذلك ، لكنه

طمئنني وطلب مني أن أنتقل من مكاني لينظف هذه الطاولة ، وسيأتيني بفنجان جديد.


انتقلت إلى طاولة هذه الفتاة العشرينية، كانت تكدست فوقها الأوراق والأقلام، يبدو أنها قد نسيتهم.

أثارت نظرى ورقة بنفسجية اصطفت تحتها الكثير من الورقات الأخرى، يبدو أنها كانت تمارس الخلوة مع نفسها وتونس آلمها بالكتابة، تجاوزتها فى البداية فربما تعود بعد قليل لتأخذ رسائلها، وفكرت أن أخرج بعض أعمالي لأنتهي منها،...

لكن مهلًا! هل أفكر بالعمل أم أننى أريد ممارسة هروب من نوعٍ آخر!

فسرعان ماتذكرت بريق ألمى، وجلست أفكر فى نفسي متسائلة:

  • كيف لى أن أصل للسلام النفسى؟
  • كيف لى أن أتخلص من ألمي؟
  • كيف لى ألا أخشى الضياع وسط اختلاج مشاعرى بالحزن؟


اضطراب واغتراب دفع شفاتي لترتل مناجاة لله بأن يساعدنى لعلي أبلغ الأسباب، ثم وجهت أناملى لنبضات الورقة البنفسجية مرة أخرى ففتحها وقرأت مافيها


"ما تركز عليه يزداد ويكثر .. وما تقاومه يزاد أكثر"


لم استطع فهمها للمرة الأولى، لكنى ذهبت أقرأ بشغف، فكان فى تكوين كلماتها كم كبير من العاطفة الجياشة، جعلتنى ألتهم بعيني كل كلمة فى هذه الرسائل إلى أن ولجت لبدايات الكلمات تلك:

ماذا عن السلام ياصديقي؟

كلمة جميلة نحبها جميعًا، ونحتاجها جميعًا، لكن ربما ضعفك واضطرابك هذا هو عين قوتك لتستعين بالله، ليطفو الأطمئنان بألوانه على سطح قلبك جليًا، فسيدنا موسى_عليه السلام_ تألم خوفًا حينما أرسله الله إلى فرعون (قَالَ رَبِّ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ*وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ)

لكنه بعد سنين من التهذيب الإلهى لما حوصروا فى البحر لم يعد يخاف، بل قال (كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)


ربما ياصديقي الوصول لهذه المرحلة لن يأتى بسكر خفيف قليل التكليف ، بدون أى صراع أو تهذيب!

عليك أن تتوقف لتسأل نفسك:

  • هل تهرب من آلامك بتحليها بالسكر الخفيف، وتظن أنه لن يؤثر فيك مرارته؟
  • أم أنك ترفض مرارته من الأصل لأنه يذكرك بضعفك وقلة حيلتك تجاهه؟
  • هل تهرب من طعم الألم كأنك ترفض أن تحتسى الشاى بدون سكر؟


استوقفتنى تلك الكلمات وبرغم عادتى المتمثلة فى محاولة الهروب التلقائى، قررت أن أواجه نفسي لأفكر مجانبًا للحقيقة:

أ تزداد الامي لأنى أقاومها بعدم الإكتراث؟

وإن كان الجواب بنعم!

فماذا علىّ أن أفعل؟

هل أتذوق طعم هذا الألم بدون أى سكر؟

إن اتفقت مع هذه الفتاة العشرينية أن اللامبالاة تخدر الألم، هل يتوجب علىّ أن أتجرعة واتألم هكذا فقط!

ظللت أعزف بهذه الاسئلة في مساحات آلمي لأحفر في مجرى جديد على صفحات التية، إلى أن عدت لاستكمال الرسائل لأقرأ:


لابد وأن لكل شعور نشعر به من غاية!

فالألم هنا حتى يدفعك للأفضل، ويعلمك الصبر تجاه قلة حيلتك تجاه ما لا تسطع تغييره، لكنك لن تصل للأفضل قبل فترة حداد قليلة، تتقبل فيها آلمك بدون سكر كما هو، فلاتتهرب منه.

تعترف بوجوده المؤلم وفقط ! ،تتقبل عجزك وخوفك وعدم قدرتك على تغيير الوضع، فقد يكون التقبل والصبر يا صديقي هو ما تحتاجه لتتخلص من معاناةٍ لا تسمن ولا تغنى من جوع، سوى أنها تذكرك بعجزك، فتمنعك من أن تفكر في الحل الافضل.

صحيح أن تداعيات التقبل هذا يعرضك للألم مباشرة بدون سكر، لطعمه اللاذع ، حيث عجزك وفقدانك السيطرة على ضيقك هذا، لكنه سيكون سيرًا مؤقتًا صدقنى ،وسيستساغ طعمه لك عند تقبله، وعندها فقط ستكون واعيًا ونبيلًا لتفكر حياله .. ولا يمنعنك أبدًا من الاكتشاف والتجربة مرة أخرى.


وتذكر دائما ألا تقاوم!

وما دام قلبك يتقبل الألم ويستعين بالله .. فإن السلام يستطيع أن يتفتح فيه



أنهيت القراءة وبدون وعي هدأت زفراتى، وشعرت بأن عبئًا ينزاح من صدري، حتى حطم قنينة صمتى العم محمود وهو يقدم إلىّ فنجان الشاى، كسرت به شقائق هذيان الألم فى جوفي ولكن هذه المرة ،بدون سكرٍ خفيف.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

سلمت يمناك 💜🌱

إقرأ المزيد من تدوينات عَلْياء حامِد كَرَم (الأترُجة)

تدوينات ذات صلة