كل ما أعرفه الآن أننا نعيش لنتألم، وربما نتألم لنعيش،الكل يتعطش إلى مُواساة وطبطبة وعناق، قد نتأقلم، نتغافل، ولكننا لا نهرب.



كنت أحسب أن قلبي هو المتألم الوحيد على الأرض، حتى لمست آلام البشرية بأسرها وفهمت أن عذابي ما هو إلا نقطة في بحر المأساة!

تمر الأيام وأنا عالقة عند لحظة بعينها، عشت معها تفاصيل الكابوس بحذافيره، وحتى الآن لم يهدأ أنين الوجع في روحي، ولن يهدأ تمامًا طالما أن الألم قد طال زاوية صادقة من الروح..

تساءلت وأنا على حافة السقوط في بؤرة الاكتئاب: هل ما أعيشه هو انفراد الألم بي أم أن العالم يحترق كذلك؟

اعتقدت في بداية الأمر أن العذاب هو عذابي وحدي، بينما الكل يغرق في الفناء ولا أحد يكترث بي، حين تأملت الكون ولم أجد سوى الحياة، أنوار ومهرجانات وأفراح، أحدهم يمزح مع آخر بنكات مُستهلكة، فتاة انتهت من جولة “شوبينج” بابتسامة عريضة، أطفال تتسابق بطائرات ورقية في سماء الغروب، كل شيء تدب به الحياة إلا أعماقي!

فهل العيب في تكويني أم للواقع رأي مختلف في قضية المعاناة؟

في الصباح الأول الذي اتخذت فيه قراري بأن أكسر حدود العزلة من بعد ليالي الحزن السوداوية، انكشف لي معنى أحببت أن أكتب عنه هذا المساء، لا يقل عن حقيقة الموت التي لطالما حاولت الانصهار فيها، إنه الألم، موت من نوع خاص وبداية معرفتنا بالوجود وبأنفسنا..

وبعدما أدركت أنه مرحلة أصيلة من مسيرة البشر على كوكب التناقضات هذا، شعرت بمدى غبائي حين تصورته قاصرًا على نبضي أنا فحسب، بل هو لي ولكم، وهو بطل القصة الإنسانية إلى أبد الدهر..

ذلك الصباح، خرجت للكون من جديد بخطوات متأرجحة بين الإصرار والانسحاب، واجهت وأنا مذعورة، ولكن ماذا أفعل غير الركض وراء سراب الدنيا؟ فكان لا بد من شجاعة وإن كانت الجروح نشطة وأقل نسمات خريفية تُلهبها، وما رأيته أكد لي أن كل البشرية مجروحة.. بطريقة ما!

كانت أول ضربة ألم تلقيتها على رأسي وأفقدتني الاتزان حينما صادفت سيدة في سن الشيخوخة تستند على أكتاف المارة، أحدهم يلحق بها قبل أن تدهسها عجلات “ميكروباص” جامحة، والآخر يعطف عليها بـ “ملاليم” لا تكفي لشراء راحة البال، وغيره يتجنبها خشية أن تكون رئيسة عصابة أو محتالة في ثوب الضعف، لا أحد يعرف الحقيقة الكاملة في تلك اللحظة.. هي تعرف..

وبعد دقائق معدودة بين الاهتمام والتجاهل، رأيتها تنزوي بعيدًا عن الاتهامات حول أصلها، وتبكي، فقط..

فما الذي يدفع سيدة في عُمر الأجداد إلى البكاء بهستيريا الأطفال؟!

ورغم خطواتي الثقيلة وقتها، تقدمت نحوها لسؤالها عن مُبررات البكاء بتلك الحُرقة التي أوجعتني بحق.. ليتها اكتفت بالبكاء ولم تلتفت إلى استفهامي!

لقد تألمت أكثر منها حين أجابت على السؤال بكلمات مُتقطعة وبصوت يرتجف: “أنا مطرودة من بيتي”

إنها تبحث عن الأمان بعدما تخلى عنها الأبناء، فلم يكن لها سوى ذلك الرصيف المكسور ليحتضن قلة حيلتها وهوانها على الناس، لقد وجدت في الحجر رحمة لم تجدها في أي مخلوق!

ذكرني حالها بحال أمي وأمهاتنا جميعًا، وهو عذاب فوق العذاب، أن تلتحم بمصيبة سيدة بسيطة تحلم بأقل حقوقها، لم تطلب العطف بـ “سندوتش فول” حتى، كل ما تطلبه هو العودة إلى سريرها ومطبخها والطمأنينة بأنها بين “أربع حيطان” تحميها من همجية الظنون و”رغيف عيش” يضمن لها البقاء لنهاية اليوم..

إنه شكل من أشكال الألم في الأرض، أن يغدو العادي أوهامًا بين ليلة وضحاها!

وهُناك على الجانب الآخر من الشارع، شاب في عُمر الورد يقبض على ملفات وأوراق بمنتهى القوة والحرص لدرجة أن أصابعه طبعت بصمتها على ورقة ورقة، يبدو أن كل خبراته في الحياة تتلخص في تلك المستندات التي وإن ضاعت يضيع معها مستقبله في غمضة عين!

رأيته يتحدث في هاتفه وهو يشتاط غضبًا ويطلب أي حلول تنقذه من الورطة وصدمته في النفوس، كان صوته مسموعًا حين صرخها: “رفضوني، ليه؟!”

رفضوه في وظيفة أحلامه، كل أيام التعب والقلق والمحاولات تلاشت مع جرة قلم وضمير معدوم، حتى قميصه الجديد، كما يبدو أنه اختاره بشغف البدايات والرغبة في اجتيار “الانترفيو” بهيئة أنيقة، وها هو الألم يجبره على التنازل عنه واسترداد ثمنه ليوفر قوت يومه!

وفي تلك الأثناء، غرقت في طوابير طويلة من جماعات بشرية على كل شكل ولون، إنها بوابة مستشفى مُتهالكة وربما هي من آثار الفراعنة، الكبير والصغير هُنا يتشاركون الصبر على المرض وانتظار دورهم في الكشف، كل ما رأيته من ملامحهم هو تقارير طبية وشنط علاج بمثابة صيدليات مُتنقلة، وأضف عليهم ثورة أوجاع لا تُحتمل!

حتى الرضيع لم يفلت من الألم، كان ينتظر كذلك على أمل أن يصل إلى طفولته بسلام..

لقد عشت موقف كهذا من قبل، لحظة فهم حالتي وأول العلاج وترقب النتيجة، ولكني لدي القدرة على مقاومة الوجع بحكم نضجي وثباتي أمام حقنة مسكنة أو مرارة مضاد حيوي، فكيف عن إحساس الرضيع بالألم وهو لم يتعرف على إحساسه بالحياة بعد؟!

لنقف الآن على نهاية منطقية..

الكل يتألم على الأرض، الكل بلا استثناء، إنها النتيجة الحاسمة التي توصلت إليها من بعد مشاهدات مزقت ما تبقى من نبضي!

قد تختلف الدرجة والطريقة، ولكنها تتفق في حقيقتها، فإن الإنسان في الكون لم يُخلق لتلك المثالية المزعومة، إنها مبتورة، حدوتة وهمية كما حواديت “أميرات ديزني”، مُبهرة وخيالية في الوقت ذاته، والألم ينهي النقاش في تلك المسألة من الجذور!

كل ما أعرفه الآن أننا نعيش لنتألم، وربما نتألم لنعيش، الجميع له قصته الشخصية جدًا مع الألم، الكل يتعطش إلى مُواساة وطبطبة وعناق، قد نتأقلم، نتغافل، ولكننا لا نهرب.. أبدًا..

لقد بدأت معي وخزات الألم منذ أن كنت صغيرة بضفائر بريئة وقلب سليم..

حين توجعت على لُعبتي المُحطمة من فرط شقاوتي وجنوني، وعلى فستان طفولتي الذي ابتلعته كومة ملابسي الصيفي والشتوي ولم أجده حتى اللحظة ولو من باب الذكرى، وعلى أفكاري التي تصعق عقلي من حين لحين ولا أستطيع التعبير عنها كما يجب، والآن على ندبات الروح.. والله أعلم بما تُخبئه لي الأقدار..

نعم، الكل يشرب من نفس الكأس، فلا تأخذكم خدعة المظاهر..

إن رأيتم أحدهم يلتمس تلك النكات المملة، فربما هو يعتصر على فراق الحبيبة وبحاجة إلى من يُهون عليه أزمة الشعور، أو تلك الفتاة التي تتمايل بالسعادة بعد “شوبينج” من كل أصناف الموضة، فقد يكون ثقل الفواتير كارثة تدفع ثمنها لاحقًا من نشوة الأنوثة، والطائرات الورقية هي حتمًا الملاذ الأخير للأولاد من “بُعبُع” انطلاق الدراسة وحصص السابعة صباحًا من بعد السهر والنوم للعصر..

وأنا، كتاباتي وضحكاتي هي مجرد قناع صنعته لكي يستر دمار الحرب بداخلي!

إياكم وفخ المظاهر..

يحضرني الآن قول المتنبي، والذي اعتبرته شعار المرحلة الإنسانية لي ولغيري:

“لا تحسبن رقصي بينكم طربًا.. فالطير يرقص مذبوحًا من الألم!”

تمهل يا قلبي، وتنازلي يا نورا..

تنازلي عن العناد والغضب ودور الضحية وانظري حولك نظرة عادلة، ليست روحي هي ذبيحة الألم وحدها في عالمنا النازف، فإن رائحة الأوجاع تفوح من كل مكان!


Nora Hanafy

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Nora Hanafy

تدوينات ذات صلة