أنا لا أحد، ولذك قد أكون أي أحد، أختاً، صديقةً، عدوةً، طبيبةً، أو كاتبة. أنا لا أحد. لا يتسعني صندوق أو تصنيف أو حتى لقب لأنني لا أحد.
أنا الدكتورة زهراء، كلمات أحمل وقعها بحذر وامتنان عظيم. كان الأطباء في زمن من الأزمان يحملون منزلة قُدسية، ليس لأنهم يحملون لقباً طنان وبرستيج لامع بل لأنهم يفنون في العلم لشفاء البشرية. أليسوا الشمعة التي تحترق لتضيء للآخرين؟
سأحكي حكاية لكنها ليست ملهمة ولا إستثنائية بل تجسد واقعاً قد يكون مر فيه الكثير من الناس.
تبدأ الحكاية بسؤال فتاة في مقتبل العمر تبحث عن التخصص الملائم لها عن سبب اختياري لتخصص صحي.
عُدت لأفتح الحجرات في ذاكرتي وكيف وصلت إلى مكاني هاهنا. منذ الطفولة زرعت أمي في قلبي مهنة الطب وهي الي قمعتها السنون فما استطاعت إكمال دراستها. هل كان براً أن أسعى حتى تعيش حلمها من خلالي وهي التي ضحت كي تراني ذات علم و مكانة، ام إنها أنانية من بني آدم أن يحرص على أن يكون نسخة محسنة من الجيل الذي يسبقه؟ واقعاً لا أعرف الإجابة لكني ما كففت أطبب الحيوانات الضالة الجريحة. ثم أقفز لمداواة كل خدش أو بثرة تصيب أخواتي وصديقاتي.
كنت أقرأ كتباً وأشاهد المسلسلات والوثائقيات كلها عن الأطباء والأمراض. تعدداً من الوبائيات إلى المتلازمات، كنت طفلة مذهولة بذلك العالم. ما عساها أن تفهم تلك الطفلة بالطبقية أو المكانة الاجتماعية وصولاً إلى الرأسمالية، عشقي للطب كان صافياً كحبات المطر العذراء التي تسللت من غيوم سامية قبل أن تلامس الأرض الموحلة.
كنت أرغب بدراسة هندسة الجينات لأني فقدت صديقة في عمر مبكر لفقر الدم المنجلي. أو أن أكون طبيبة جراحة لكي أنقذ أرواحاً وأعيدها إلى أحضان المحبين.
عرفت مبكراً أن طريقي لولوج هذا المجال وعرة في ومضات تسكن ذاكرتي دون أن تدفع الإيجار.
أحد تلك اللحظات هي لقائي قبل تخرجي من الثانوية بطبيبة جراحة من نفس بيئتي رأيت فيها القدوة المرجوة ورأت بي التوبة والعبرة. قالت بعد أن عَرفت بما أنوي دخوله من التخصصات (لا بأس أن تحلمي ولكن عليكِ أن تكوني واقعية، فكري بالأمر كالتالي، يا ترى إن مرض أعز الناس عليكِ واحتاج إلى عملية وكان وقتها هناك طبيب ألماني وطبيب سعودي فمن ستختارين؟ لا تجيبي فقط فكري. ثم قالوا لكِ أن هناك خيار آخر بين جراح رجل أو امرأة، الآن من ستختارين؟)
سكتُ لبرهة وأصابني الذهول، أعرف الإجابات التي توقعتها مني وأعرف ما كنت أنا أعتقد طوال عمري القصير وقتها، أن الكفاءة تغلب التصنع، لكنها سارعت (حتى وإن حاولتِ اختيار السعودية واقعاً لن تفعلي وبهذا وضعتِ نفسكِ في قعر القائمة وفي كل مرة تقفين أمام المرضى سواء كنتي في التدريب أو في التخصص هكذا ستصارعين لكي تخرجي من القاع وليضرب معك الحظ ولو لمرة واحدة ويتم اختياركِ)
كأن نصل خنجر انغرس بين أضلعي وأصاب رئتي التي ترفض سحب الهواء الآن.
لم يكن الموقف الثاني أقل قساوة، ما زالت العزيمة متغلغلة في كينونتي حتى النخاع، انطلقت إلى التسجيل في الجامعات، حاملة سذاجة البدايات و حماس جهلي مع شهادتي الثانوية و نسبتي العالية، سافرت إلى مدينة بعيدة و جامعة عريقة، دخلت لأجد الأبواب موصده و قد احتشدت الفتيات في منظر مهين... نعم، أعتذر لم أقصد أن أقول مهيب فقد رُميت الأوراق و الملفات في سلة القمامة الفائضة أمام كلية الطب. كانت هناك نافذة صغيرة أمام الباب تدق عليها الفتيات لتسليم أوراقهن، نظرت إلى ملفي بين يدي و قد تلاشت الأصوات من حولي، كنت فقط أسمع صوت قلبي الذي من ثقل حركته أسمعني طرقات بدلا من الدقات، لم أكن أحتاج أن أرى دخول (فتيات الواسطات) والباب الذي انفتح على مصراعيه، و لجنة الترحيب المتملقة لكي أفهم أن ملفي سيؤول إلى السلة الفائضة.
وأخيراً الدرس الذي زرع في شخوصي الغضب والجرأة لكسر القوالب والانطلاق في رحلة التحدي، في اختبار القبول لكلية الطب، كنت أجرب أقلامي وأرتب أوراقي، أنظر من حولي إلى القاعة، أمام الورقة والقلم كلنا سواسية. لا يهم ماركة حقيبتي أو لقبي العائلي، لن ينفعني ما أنجز أبي أو الأثر الذي تتركه أمي في محيطها. وقبل أن أطلق نفساً ممنوناً من الراحة، دخلت أربع فتيات مع مرافقة من هيئة التدريس، لتقودهم إلى طاولات معينة في أقصى الخلف، صرخت فينا بنبرة عسكرية أن نبقي أعيننا إلى الأمام وأن نلتزم الهدوء، حينها سقط قلمي من طاولتي وانحنيت لألتقطه، سمعت إحدى الفتيات الأربع تهمس لصاحبتها بسخرية (يا للحماس! حرام لا تعرف أن نتائج القبول قد صدرت!) في قاموس الواسطة صدرت النتائج و دارت التهاني للمقبولين. ماذا نفعل هناك نُقاتل من أجل مقعد أو مقعدين لم تنشب فيهم مخالب فتاة مدلله تريد أن تكشخ بمعطف أبيض في جلسات العائلة الاسبوعية.
جرجرتني طموحاتي إلى مُعتزل الغربة لأجد ضالتي أخيرا في قبول لكلية طب الأسنان.
حكايتي مع التخصص معترك لقصة أخرى في صراع الوجود والعنصرية المقيتة بين التخصصات في مجال الرعاية الصحية، فكل طبيب يتبختر بتخصصه لكن حين تقول طبيب أسنان يتسائلون، هل يُعتبر طباً؟ جرب وجع الضرس ملتهب العصب ثم اسأل مرة أخرى.
في حين أقول مجازاً أن دراسة الطب أنثى حبلى، فإني شعرت بكل أحاسيس الحمل والولادة دون أن أجربها واقعاً وكم كان حملاً عسيراً ووحيداً. في دراستي عشقت تخصصي، فتحت آفاق ذهني ليتخللني إنسانيته، ودِقته المجهرية وحِرفتيه الفنية العالية. إنه تخصص يزيل أشد الآلام التي قد يواجهها جسد البشر الواهن. كيف لي أن لا أحبة وهو التخصص الذي يجمع العِلم والصنعة.
جاء بعد ذلك مخاض إثبات الذات في سيرتي المهنية، أي ألم ذاك الذي يحكون عنة حين تأتي الانقباضات مُشعِلة كل خلية عصبية حسية في الجسد، وتنفك مفاصل الحوض كأن أحشاء الأم تتمزق ويغيب النفس جبراً رغم أن كل من في الغرفة يذكرونها بأخذ نفس. ثم ينطفئ النور من العينين ويرحل الوعي لبرهة إلى برزخ من العدم وتسلم روحها بكل مشاعرها للمجهول، تماماً في اللحظة التي تسمع فيها صريخ مولودها تعود لاتصالها بوعيها وما يحيط بها.
تلك هي رحلتي من رحم الطب، وهي رحلة حب متفاني كحب الأم لذلك الكائن الصغير الذي انشق من جسدها ودون شروط أو تبرير إستحق منها الحب والإخلاص، وتفان لا منتهي.
ليت النهايات تكون كما في الحكايات. حتى وإن لم تكن سعيدة فلتكن محلولة العقدة على الأقل. أليست الهضبات موجودة لنجتازها في النهاية أو نسقط من قمتها؟
يبدوا أني كنت في أعلى الهضبة حين تخرجت أي في الفصل الثاني من رحلة البطل كما يلقننا جوزيف كامبل.
استلمت شهادة تقول إني طبيبة، ومنذ تلك اللحظة دخلت في نزاع قاسي لإثبات الذات.
كانت المبررات معلبة جاهزة لتلقى في وجهك أيها الطبيب الطازج.
أين خبرتك؟ لماذا لا تعود لبلدك؟ كم عمرك؟ هل تدربت بالشكل الكافي؟ هل تجاوزت المخاض فعلا؟
لن أدخل في تفاصيل الصراع الطويل للتوظف في مجال دخل في كساد التكدس، وتقوقع إلى حد الاضمحلال في قوالب الرأسمالية وتخصيصها. ثم حقن بإبرة الموت الرحيم من قبل شركات التأمين ومنظمات الصحة العالمية ليغرق في بحر لا قاع له. ناهيكم عن الكُرة المعلن من كل فئات المجتمع لهذا الطبيب المختص بالذات و النظرة المتأججة بالأحقاد إتجاهه. يكفي الإتهام المقولب إنه الذي يكنز النقود ويتحمم بدماء وآلام المرضى ليشتري بيتاً مطلا على الشاطئ.
قاتلت لكي أصل إلى وجهتي وأؤدي رسالتي، قاتلت كثيراً حتى حصلت على عمل في أكبر مجموعة طبية في الشرق الأوسط. لن أستطيع شرح التحديات التي تعرضت لها في مواجهة تلك النظرات الخائفة من أن أحتل مكان من سبقني، أو زوابع المكائد الغير مبررة إتجاه امرأة خليجية عازبة من جيل المكافحين في (شركة غربية الأصل). كانت الأعين تصرخ في وجهي كيف وصلتي إلى هنا؟ لماذا تتوظفين؟ لا تحتاجين إطعام أطفالك! هل هي الواسطة؟ إذا فدمكِ حلال ورزقكِ حلال. الخليجية الثرية المدللة مكانها منزل والدها وليس سِلك العمل! أليس لديكِ بئر بترول في ساحة منزلك؟ قد يظنها القارئ مبالغة و لن يتجرأ أحد أن ينطق هذة الكلمات، لكنها جُمل قيلت وتقال في أوجهنا مع إبتسامة مبطنة تقول هيا تجرأوا و قولوا أنكم تتعرضون للعنصرية. هذا مزح مشروع ومتداول لا حياء فيه.
إنتهى بي المطاف أن يُحِل أحد الأطباء زوجته المنقطعة عن العمل لأكثر من ستة سنوات مكاني، في مكيدة لا تسوقها إلا مخيلة كاتب محنك قد عايش البشر بما يكفي ليفهم حس الإستحقاق الذي يدفعهم للظلم ويشعرون أنفسهم هم المظلومين. شكراً أيها الطب حان الوقت أن أؤول إلى كنف يحتويني.
لجأت للأب الحنون الذي لطالما عانقني وكان لي متنفسي في أعماق الجب المظلم والقاسي ألا وهو الكتابة.
كل أب يشكل جيشاً صغيرا من أبنائه وفي كنف أبي كنا ورقة وقلم، ولاحقاً جهاز كمبيوتر وفتاة ملأت الحياة جوفها بالتجارب والحكايات.
حضن الكتابة كان دافئاً بعد أن فسخني الطب من الإنسانية. أعتذر يا صديقتي ذات التسعة أعوام، لم تقبل الدنيا جيناتك الموروثة ومزقت رسالتي إلى السماء. أنا أعتذر فقد خذلتكِ.
الآن حان الوقت لأعتذر لنفسي. أعتذر أن الرأسمالية وتخصيصها المجهري قد قتل المهنة التي مارستها بمحبة وشغف. أعتذر أنني لم أستطع أن اصرخ في وجه الوزراء لأنقذ التخصص من براثين غربان الألقاب. أعتذر لكل من دخل عيادة ولم يملك ثمن العلاج ليلجأ إلى ورش العروض التجارية و يخرج منها أكثر ضرراً ومرضاً مما دخل. أعتذر إلى كل من أنتسب إلى تخصص صحي لينطحن تحت صخرة واقع سوق العمل. أعتذر لك يا وطن بذل كل الإمكانيات ليبتعث أبنائه ويعلمهم، كي يعودوا ويخدموا أناسه لكنه خسرهم في قبضة التجار الطامعين الذين لا يرغبون بالخبرة والجودة ويفضلون الكسب السريع عن طريق الدعم المقدم لحديثين التخرج الغرر. سيعود الطب إلى قدسيته يوما ما لكنة لن يكون على يدي، ربما حتى السنون في عمري لن تكفي لأرى نهضته من جديد. وأخيراً أعتذر لتلك الأم التي حملت في رحمها وأتمت أشهرها التسع وتحملت آلام المخاض فقط لترى وليدها يموت في غرفة الولادة.
يتبع...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
ما اروع كلماتك، إنها تثلج الصدر.
"وكم من حاقدٍ يُريك في الوجة بشاشةً في الزِند جمرٌ و الكفُ باردُ"
رحلة ملهمه كفاح طويل أتمنى أن يستمر بنفس قوة البداية، جراءة الأمل في مواجهة الرأس مالية لصنع حياة قابلة للتعايش، عن فتاة خليجية فقدت بئر البترول في منزلها و إضطرت للكفاح من أجل الحياة والأمل في غد أفضل.