كم صديق أو متابع لديك في وسائل التواصل؟ كم كتاباً تقرأ في الشهر؟ كم شعور يتملكك في الدقيقة حين تتصفح الإنترنت؟
مقدمة:
منذ بزغ العصر الرقمي تفاءل المثقفون والباحثون عن المعرفة بالوصول غير المسبوق إلى المعلومات والاتصال. لم يعد حاجز الرقابة يثني عن الوصول إلى الوسائط المقروءة، المسموعة أو المرئية. لدينا الآن المزيد من الكتب التي يجب قراءتها، والمزيد من الأصدقاء للتواصل معهم، والمزيد من المعلومات التي يمكن تحليلها أكثر من أي وقت مضى. وبينما في الظاهر تعد هذه الوفرة فرصة رائعة للتعلم والتفاعل الاجتماعي، فإنها في الباطن تمثل تحديات كبيرة تغشى عنها العين اللا-فاحصة. من منطلق أن "ما زاد عن حدة انقلب ضده" اتضح أن هذا التضخم الهائل في المعلومات، يؤثر على صحتنا العقلية وإنتاجيتنا وتفاعلاتنا الاجتماعية بطرق معقدة.
تبعات التضخم المعلوماتي والاتصال المزمن:
لقد أحدث ظهور الإنترنت ثورة في طريقة وصولنا إلى المعلومات واستهلاكها. ببضع نقرات، يمكننا التعمق في محيط من المعرفة يمتد عبر تاريخ البشرية بأكمله وما بعده، لكن حين ننظر إلى الوضع الراهن للإنسان بمقياس الطبيعة البشرية في الماضي وما تقول أمثالنا "تحتاج قرية لتربي طفلاً" سنجد أننا نزعنا الفرد من القرية وشيطنا المجتمع ثم فككنا العائلة. بعد ذلك أتانا آلاف الأشخاص من مئات المجتمعات الغريبة ممن يتفقون معنا بفكرة عابرة عبر خوارزمية التطبيقات، ثم سمينا هؤلاء الببغاوات الفكرية في غرفة الصدى المحكمة بأصدقاء ومجتمع! وهكذا بعد عشرين عاما من تأسيس الفيسبوك أصبحنا أبعد ما نكون عن الناس الأهم في حياتنا.
تتمثل التحديات الناجمة عن السيل المعلوماتي والتواصل المزمن بما يلي:
١- التضخم المعرفي والتعب في اتخاذ القرار:
يطالب الناس بحرية التعبير كتعويض عن حرية الفكر التي نادراً ما يستخدمونها. ~سورين كيركغور
أحد التأثيرات الأساسية لوجود الكثير من المعلومات هو الحمل المعرفي الفائض. أدمغتنا ليست مجهزة لمعالجة كمية لا حصر لها من البيانات في وقت واحد. إن التدفق المستمر للمعلومات الجديدة يمكن أن يطغى على قدراتنا المعرفية، مما يؤدي إلى صعوبات في التركيز، وانخفاض القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات، وضعف عملية اتخاذ القرار. هذه الحالة من الاهتمام الجزئي المستمر يمكن أن تجعل من الصعب التركيز على المهام العميقة ذات المغزى، مما يؤدي إلى فهم سطحي للموضوعات بدلاً من الفهم العميق والدقيق.
كما إن "إرهاق اتخاذ القرار" هو نتيجة أخرى للحمل المعرفي الزائد. مع وجود المزيد من الخيارات التي يتعين علينا اتخاذها تستنزف طاقتنا العقلية مثل: أي الكتب نقرأها، وأي المقالات الإخبارية التي نثق بها، وأي التفاعلات الاجتماعية التي نعطيها الأولوية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات سيئة مع مرور الوقت وزيادة التوتر، حيث تكافح أدمغتنا لمواكبة الطلب المستمر على الاهتمام والاختيار.
٢-الوهم المعرفي المفرط:
أدى الإنترنت إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة. المعلومات التي كانت في السابق مقتصرة على أرفف الجامعات والمكتبات النخبوية، أصبحت الآن في متناول أي شخص لديه اتصال بالإنترنت. توفر المنصات عبر الإنترنت ومحركات البحث مثل غوغل ساهمت في انفجار أعداد الواهمين المصابين بتأثير الدنينج كروغر وهي حالة من الوهم بالتحيز المعرفي واعتقاد الأشخاص أنهم أكثر علما ومعرفة. يميل الأشخاص غير المؤهلين للمبالغة في تقدير مهاراتهم بسبب عدم قدرتهم على التنافس والمعرفة والتفريق بين الشخص الكفء وغير الكفء أو يعانون من وهم التفوق. مبالغين في قدراتهم المعرفية بشكل زاعمين أنها أكبر مما هي عليه، وينتج التحيز المعرفي لوهم التفوق من انعدام قدرة هؤلاء الأشخاص على إدراك الإدراك، فبدون إدراك الذات لا يُمكن لهؤلاء الأشخاص أن يقيموا ذواتهم بشكل عادل. ويكمن تزايد أعداد الأشخاص المصابين بهذا التأثير بسبب التبعية المفرطة التي تدعمها الخوارزمية حيث يتعرض المستخدمون في المقام الأول لمعلومات تعزز معتقداتهم الحالية. ومن الممكن أن يؤدي هذا التعرض الانتقائي إلى تعزيز تأثير دانينغ-كروجر من خلال التحقق من صحة ثقة الأفراد المضللة في معرفتهم.
غالبًا ما يؤدي الحمل الزائد للمعلومات إلى فهم سطحي للموضوعات المعقدة. قد يتصفح الأفراد المقالات أو العناوين الرئيسية أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي ويعتقدون أنهم استوعبوا الصورة الكاملة. هذا الفهم الضحل يمكن أن يعطي إحساسًا زائفًا بالخبرة.
كما يوفر الإنترنت إجابات سريعة على الاستفسارات، مما يعزز ثقافة الإشباع الفوري. هذه السرعة يمكن أن تجعل الناس يشعرون بثقة زائدة في فهمهم لموضوع ما، لأنهم لم ينخرطوا في تفكير عميق أو نقدي أو بحث شامل متناسين
إن المشهد الرقمي مليء بالمعلومات الخاطئة. التعرض لبيانات غير صحيحة يمكن أن يؤدي بالأفراد إلى تكوين استنتاجات خاطئة.
سمع الحمار أن الكتاب يعطينا الحكمة فأكله. ~ليوبكا سفيتانوفا
٣-تسطيح العلاقات الإنسانية:
لقد أدت أدوات الاتصال الرقمية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة، إلى توسيع شبكاتنا الاجتماعية ولكن في كثير من الأحيان على حساب عمق التفاعلات. يمكن للرسائل السريعة والإعجابات والتعليقات أن تخلق واجهة من التواصل الضحل دون الثراء العاطفي والفهم الذي يأتي من المحادثات وجهًا لوجه. وهذا يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالسطحية وعدم الوفاء في العلاقات وزيادة الشعور بالوحدة.
ومن المفارقات أنه على الرغم من كونهم أكثر ارتباطًا من أي وقت مضى، فإن الكثير من الناس يبلغون عن شعورهم بالوحدة. نوعية التفاعلات المبنية على إشباع جرعة الدوبامين القادمة من الإشعارات والإعجابات في كثير من الأحيان لا تلبي الاحتياجات العاطفية، مما يؤدي إلى الشعور بالعزلة. والتعرض المستمر لحياة الآخرين المنسقة والمثالية على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يساهم أيضًا في الشعور بالنقص والانفصال. كما أن التعرض المستمر لحياة الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى إجهاد عاطفي من الضغط لمواكبة النجاحات والسعادة لعدد كبير من الأصدقاء يمكن أن يساهم في الشعور بالنقص والقلق. يتفاقم الخوف من تفويت الفرصة (FOMO) في العالم الرقمي حيث تُعرض إنجازات الجميع وأنشطتهم باستمرار.
يتطلب الحفاظ على اتصالات ذات معنى وقتًا واستثمارًا عاطفيًا، الأمر الذي يصبح صعبًا عندما يمتد عبر عدد كبير جدًا من الأشخاص ولم يولد الإنسان بهذا القدر من الطاقة النفسية أو العقلية. كما إن آلية التصفح العابر وجرعات المشاعر المتفاوتة المصممة في وسائل التواصل تساهم في الإنفصال والتخطي السريع مما ينتزع الإنسانية من الإنسان ففي لحظة يضحك وبمسحة إصبع ينتقل إلى الغضب أو الحزن دون أن يعطى الوقت اللازم للعيش مع مشاعرة وحلها.
٤-الإنتاجية والصحة العقلية:
يمكن أن يؤدي التدفق اللامتناهي للبيانات والإشعارات إلى تشتيت الانتباه والانقطاعات، مما يجعل من الصعب إكمال المهام بكفاءة. تبين أن تعدد المهام، الذي غالباً ما تشجعه البيئة الرقمية، يقلل من الإنتاجية ويزيد من احتمالية حدوث الأخطاء. غالبًا ما يكون التركيز على مهمة واحدة في كل مرة أكثر فعالية، لكن متطلبات العالم الرقمي يمكن أن تجعل هذا الأمر صعبًا.
التأثير النفسي للحمل الزائد للمعلومات كبير. يمكن أن يؤدي الضغط الناتج عن محاولة مواكبة كمية هائلة من البيانات إلى القلق والإرهاق. إن الضغط من أجل استهلاك المعلومات والاستجابة لها باستمرار يمكن أن يخلق شعورًا بالتواجد الدائم، مما يقلل من الوقت المتاح للراحة والتفكير. هذا التحفيز المستمر يمكن أن يتداخل مع النوم ويساهم في مشاكل الصحة العقلية مثل الاكتئاب والإجهاد المزمن.
لتخفيف من آثار تناول الكثير من كل شيء، من الضروري اعتماد استراتيجيات تعزز التوازن والرفاهية:
١- إعطاء الأولوية للجودة على الكمية: ركز على تعميق بعض العلاقات ذات المغزى بدلاً من توزيع نفسك على العديد من العلاقات السطحية. وبالمثل، اختر الانخراط بعمق مع الكتب ومصادر المعلومات المختارة بدلاً من محاولة استهلاك كل شيء.
٢- رسم الحدود: ضع حدودًا لوقت الشاشة واستهلاك المعلومات. حدد أوقاتًا محددة لفحص رسائل البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والأخبار لمنع الاستهلاك المستمر.
٣- ممارسة اليقظة الذهنية: الانخراط في ممارسات اليقظة الذهنية لتحسين التركيز وتقليل التوتر. يمكن أن يساعدك الوعي التام على البقاء حاضرًا ومركزًا، مما يعزز قدرتك على معالجة المعلومات بفعالية.
٤- تطوير المعرفة الرقمية: تحسين قدرتك على إجراء تقييم نقدي لمصادر المعلومات. سيساعدك هذا على تمييز المعلومات القيمة من الضوضاء، مما يقلل من الحمل المعرفي الزائد أو الوهم المعرفي المفرط.
٥- تعزيز الأنشطة غير المتصلة بالإنترنت: تحقيق التوازن بين التفاعلات الرقمية والأنشطة غير المتصلة بالإنترنت التي تعزز الصحة العقلية، مثل التمارين الرياضية والمشي في الطبيعة والمحادثات وجهًا لوجه.
وأخيرا، في حين أن وفرة المعلومات والاتصال في العصر الرقمي توفر فوائد هائلة، فإنها تفرض أيضًا تحديات كبيرة. ومن خلال اعتماد استراتيجيات لإدارة الحمل المعرفي، وتحديد أولويات الاتصالات ذات المغزى، والحفاظ على توازن صحي، يمكننا التنقل في الطوفان الرقمي بشكل أكثر فعالية وتسخير إمكاناتها لتحقيق النمو الإيجابي.
في الختام تذكر لم يخلق الإنسان ليقرأ مليون كتاب أو يتذوق مليون طبق أو حتى يتواصل بفعالية وإنسانية مع مليون إنسان إنما يولد طفلا وتربية قرية.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات