حجابها الأبيض لم يكن إلا انعكاسا لصفاء قلبها ونقاء روحها.ا

تمر السنين وارء السنين ولازالت ذكراها تملأ حياتي، لازلت أراها في كل وجه مرت عليه سنين طوال، لازلت أميز صوتها ومشيتها وصورتها...لازلت أحبّها.


أقبلت ذات ظهيرة متدثرة بحجابها الأبيض، متعثرة بأثوابها الفضفاضة، متلثّمة بوشاحها، أسألها:"لم اللثام وقد بلغت من الكبر عتيّا!" تجيب: "إن الحياءَ خصلةٌ لا عمرَ لها"


غفت ذات مرة يثقل جسدها الحب، فجلست قريبة منها، غارقة في تفاصيل وجهها، أستقرئ تلك الخطوط التي خطتها يد الحياة على صفحته، متسائلة: كم مر عليها من تجارب! ماذا أذاقتها الحياة لتترك كل هذه التجاعيد على وجهها! وحين غادرها ثقل الغفوة قالت- وقد رأت المصحف بين يدي- : "ليكن رفيقك دائما، ولتبدأ كل صباحاتك به، إنك لا تعلمين مدى الثواب في ذلك" وهذا زاد حيرتي فتساءلت مرة أخرى: من علّمها هذا وهي التي لم تدخل مدرسة من قبل!


ذهبت مرة للمسجد -ولعلّها أول مرة بعد رحيلها- فرأيت صورتها أينما ولّيت وجهي، رأيتها في كل وجه قابلته، تذكرت نصائحها، وتذكرت كيف كانت تعلمني آداب المسجد، بعدها كلما زرت المسجد تذكرتها، ذلك أن ذكراها ارتبطت ارتباطا وثيقا به، فما أجمل أن يرحل الإنسان وترتبط ذكراه بشيء سماوي!


كانت ملاكا سكن الحب في مقلتيه، ودثر العطاء يديه، تصبح الحكايا في حضنها أغاني هادئة و مشاهد مرئية، ويتحول كل عتاب في حضرتها لأحضان دافئة، وكل عمل معها يكتسي مذاقا حلوا مهما كان صعبا.


لا أعلم -على وجه التحديد- كم قلبا ملكته، ولكن ما رأيته أنها أعطت لكل ابن قلبين: قلب له وقلب لأولاده، وهذا حال الجدّات عموما، أما الأمر المختلف والذي تفردت به هي أنها أعطت أبي قلبا ومنحت لكل واحد منا -أبناءه أقصد- قلبا، فاتسعت قلوبها لنا جميعا: أبناءً وأحفادا. أرضعتنا الحب صغارا، والحنان كبارا، ومن فرط محبتها لنا ظننتها أمَّنا جميعا فاحترت في قدرتها على إنجاب هذا العدد الهائل من الأبناء، لاحقا أدركت أنها جدَّة،

وهذا حال الجدَّات ينجبن مرات كثيرة: مرةً من أرحامهن ومرة من أكبادهن

صدّقت أنّها جدة للغير أما بالنسبة لنا -أنا وإخوتي- فكانت أمّنا إلى اليوم!


رحلت جدتي ورحلت معها كل الأشياء الجميلة، حتى أبي رحل بعدها بأشهر قليلة لعلّ قلبه لم يتحمل فراقها، ولا قلبي يتحمل فراقهم، فأسأل الله أن يجمعني بهم جميعا في الجنة.















زكية أحمد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات زكية أحمد

تدوينات ذات صلة