التجربة الإنسانية كيف يحتفي بها البحر، كيف يحتضنها، ويسكب فيها روحه؟
في ضائقة مرت بالأسرة تزامنت مع سنة تخرجي الجامعية، والاختبارات بالتحديد، اضطررنا نقل السكن بشكل مؤقت إلى الإسكندرية ما يقارب سنة أو يقل، ضائقة صغيرة مقارنةً بضائقات أكبر مر بها الكثيرون، لأول مرة يعتريني الشعور بالفرار، بالطرد، بالغربة، بالوحدة وافتقاد الأهل، فقد كان من الصعوبة بمكان أن نجتمع جميعاً طول أيام الأسبوع، مقسمين بين المنزل الأصل والمنزل المؤقت، ليزامن حالنا هذا حلول شهر رمضان، رمضان الذي يعني الكثير لمن اعتاد قضاءه في دفئ بيت عائلي تظلله الجدة التي نتبادل الإفطار معها أيام الشهر الفضيل تنازليا بأعمار الأعمام، رغم غياب فردين من الأعمام لا يد فيه إلا لقدر الله وقد رضينا، أصبح تعداد الغائبين ثلاثة، ومسجد بكيت وأنا أحول نظري بين تفاصيل جدرانه ومنبره، في أخر مرة صليت فيه ركعتي أحياء ليلة العيد العام السابق لعام حدثنا هذا، بكيت بشكل مفاجأ وحزين لشعور أشبه بالتكهن، أني لن أعود إليه مجددا، وقد كان لم أعد لم يمهلنا حتى تراويح ليلة رمضان الأولى، ومرت ثلاث سنوات ولم أعد، في السكن المؤقت، احتضنتني الإسكندرية، البحر بشكل أدق احتضاناً رؤوم، عمق الشعور بالسكن، منذ ذلك الوقت رغم العودة إلى المدينة الأم، تأصل شعور وطن دافئي في مدينة البحر "الإسكندرية" وانتماء جميل للبحر ومدنه.
الفترة القصيرة التي قضيتها في شرم الشيخ، ثلاثة أيام وليالي كإجازة زواج " الهاني مون" كما يقال، رغم الخلق البديع الذي تكشف ليَّ في بلادنا غير المحتلة على النحو الأيديولوجي، برغم سحر البحر الأحمر وخلقه المهيب وجباله الأخاذة "جدد بيض وحمر وغرابيب سود" كان حال قلبي الانقباض التام، تأكل هذه السياحة العاهرة من المنطقة وجهها الحسن، تلوث الفطرة التي فطرها الله عليها، فأبدو أنا صاحبة الوطن كالغرباء بل كالفضائيين من كوكب الهلو لولو، في حين تبدو اللغات والملامح المزدحمة والمتضاربة جدا حد الإزعاج سمت المدينة، منطقة جميلة مسلوبة بشكل مقنن لا يأتيها أو يحلم بمجيئها أهل الوطن إلا بجهد جهيد وتكلفة باهظة لا تناسب ربما إلا عروسان شابان لم تفتك بهما بعد مسؤوليات الحياة.
في كل طريق جديد للسفر بعيد زمنياً لكنه داخل البلاد، اكتشف الجمال المحتكر لفئة بعينها لا أعلم كم تمثل من هذا الشعب الكبير، في طريق السفر الأخير لأول مرة بعمر تجاوز الرشد وأمومة وطفل تطلعت بشغف إلى بحيرة مريوط بمساحتها الشاسعة الخلابة، لأول مرة، تلا ذلك انكشاف الساحل الشمالي خلف مساحات شاسعة من القري السياحية، بيوتها المصممة على نسق واحد كنسخ إلكترونية متكررة بدقة حاسوب فائق الحداثة، تحجب البحر الذي يبدو في البعيد أزرق ضبابي ملتحم بالسماء، أمقت هذا الوجه الاستهلاكي القبيح المتعدي على البحر، الذي يسلب المدن أرواحها ليقيم مناطق بموصفات خاصة لأشخاص بمواصفات اجتماعية خاصة أيضاً.
إن كنت أتمنى يوماً أن اسكن مدينة للبحر في بلدي فستكون الإسكندرية في بيت ولو عتيق ولو بنافذة واحدة واسعة على البحر، أو شرفة في أحسن الأحوال، البحر يحتضن التجارب الإنسانية على أن تكون إنسانية محضة بعيدة عن الاستهلاك، لذا فروح البحر تسكب في مدنه بإنسانيتها حيث يمكن لمتوسط العيش وحتى الفقير المسير والجلوس على كورنيش البحر، وللغني أيضا أن يختار بين الكورنيش أو المقاهي الفاخرة، الأصل أن تمشي الحياة الإنسانية بتفاوتها في توازي مع البحر، تتشكل التجارب الإنسانية تلك في المشاعر في الفن في الأغنيات، والأغنيات تتدفق في مدن البحر على الموانئ وقوارب صغار الصيادين (الفلوكة كما يسميها المصريون أو الشختورة كما يسميها الفلسطينيون)، من شبابيك البيوت التي هرمت إلى جوار البحر، في أغنيات فيروز وقصائد الشيخ إمام...
يا إسكندرية يا مصراوية
على سن باسم على ضحكة هاله
البحر شباك ومشربية
وأنت الأميرة عالدنيا طاله...... والبحر يسمع الأغنيات.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات