كيف يمنحنا الألم معاني الإنسانية وقوة الشعور؟ هل يمكن أن يكون الألم نبيلاً؟
يكتب علي عزت بيجوفيتش "يمكن الحديث عن معني أو لا معني العذاب، وعن دوره في حياة الإنسان والتاريخ، ولكن الأكيد الذي نشعر به هو أن العذاب تكوين نبيل أو مجبول من أشياء نبيلة" أتأمل هذه الحكمة العظيمة في ضوء أقسى التجارب التي أثرت في شخصي، وأنارت إنسانيتي، صرت إنسان بمعاني إنسانية حقيقية أكثر، لحظة المخاض "الولادة الطبيعية" التي جبل الله النساء عليها، على خوضها وتحملها، ولا أعرف ماهية تحملها، ولا أعرف كيف تحملتها، أو لم أتحمل فقط شاء الله، أراد الله وقدر الله، كانت مشيئتي وإرادتي في خوض التجربة سيرا في مشيئته، وتنفيذا لإرادته سبحانه، أتطرق في هذه اللحظة إلى سفه المجتمع القائل "وجع ساعة ولا كل ساعة" والذي أعادته على مسامعي العديد من القريبات والمعارف في مفاضلة أن الولادة الطبيعية أفضل من عملية قيصرية، وأنها أسهل، صحيح أنها أفضل لأنها فطرة الله، ولأسباب تتعلق بصحة الأم والجنين، لكن ليست أسهل، والأكثر سفهاً أن تقول لك إحدى من مررن بتجربة ولادة قيصرية في تسفيه تام لألآمك التي لم تعشها "أن الطبيعي أسهل" بما يعني أن ولادتك كانت أسهل، آلامها أيضاً لم أعشها ولا أسفه أبداً منها، لكن السخف الحقيقي يكمن في رغبتنا الدائمة في مفاضلة آلامنا واستعظامها عن ألآم الأخر، ولا أنكر أني وقعت كثيرا في ذات الخطأ، وأجزم أن أشد أسباب تهميش المجتمع لألآم النساء هن النساء أنفسهن.
وبالعودة إلى أصحاب مقولة "وجع ساعة ولا كل ساعة"، هل عايشتم لحظة موات؟ لحظات الطلق والمخاض موات حقيقي، لحظات تكون معلقاً فيها بين أمنيتين، أحدهما بشفافية تامة "الموت" تمنيت في تلك اللحظات أن يصيب أحدهم رأسي بعصا قاسية فيغشي علي، والأمنية الأولى والعجيبة والأمل المصاحب للحظات العذاب تلك أن تنعتق من آلامك بخروج هذه الروح الجديدة منك، فترتد إليك روحك، (هنا يكمن القول أن العذاب مجبول من أشياء نبيلة وإلا كيف لتُري نجمة الأمل لولا ظلمة العذاب)، المفارقة أن أمهاتنا وجداتنا كن يخضن التجربة بعسرها ويسرها بسلاسة من يعبر بين الأشواك برفع طرف ثوبه، ولماذا نكتب نحن دونهم مرارتنا وعذاباتنا الفطرية؟ هل لأننا ضعفاء؟ أم لأن صمتهم عن ألآمهم هو ما جعل المجتمع لا يعبأ لألآم المرأة وكأنه جزء طبيعي من دورة حياتها يجب أن تخوضه دون اكتراث، وبصمت، والإجابة عن كلا السؤالين بهل هو نعم، نعم نحن ضعفاء وضعفاء جدا يا الله، جيل مجبول من ضعف، لكن ربما كتابة الضعف أمر ضروري أيضاً، وإلا لماذا يوثقه الله في كلامه الخالد "حملته أمه وهنناً على وهن" لقمان، وحين سأل أحدهم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إن كان وفى أمه حقها حين حملها على ظهره وطاف بها فقال: والله ما وفيت طلقة من طلقاتها، فلماذا إذا نسفه ضعفنا ونتجاوزه كأنه أمر غير ضروري! في حديث مع والدي بعد عودتي من المشفى، قلت له: أن مشاعري بين ألآم المخاض تماما، كما قالت مريم-عليها السلام "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً" ربما من يقرأ الان من شابات أو مقبلات على ولادة سيتألم ولن يرغب مطلقا بمعايشة تجربة مماثلة، لكني أكتب الآن بمليء وعيي وإرادتي وأتذكر كافة تفاصيل الولادة التي لم تكن كما يقولون "الساعة المنسية" كانت الأكثر وضوحاً وألماً في حياتي، إن قدر لي مرة أخرى سأختارها، ممتنة يا الله لهذه الساعة، لهذا الألم الذي وهبتني به الأمومة ووهبتني به المشاعر وإنسانيتي.
لا أستطيع ألا أدرج هنا ما يقوله عليّ عزت أيضا (اعتقدت دائماً بأنه لا يوجد ما هو أكثر ذاتية وغني في الشخصية من الأم)، نعم وهبت بهذه التجربة أمومة وهبت بها ذاتي التي أتعرف عليها الآن أفضل وهبت بها إنسانيتي، لم أفهم أمي ولم أقدرها بصدق وبوعي تام إلا بعد هذا الساعة، أمي التي حفظها الله وحتى في وقت المخاض كانت في مهمتها التي لا يحسن أحد القيام بها "الأمومة" وأنحاز هنا إلى أمي وكلنا ينحاز، أتذكر تلك الضمة بين التخبط في الألم التي حاوطت بها أمي بكلتا ذراعي، شعرت وقتها أن أضلعها ستنطوي بينهما، لكني يا الله شاكرة لك، شديدة الامتنان على هذا العذاب الصغير المجبول بالنبل، نبل المعنى الإنساني الذي وهبتني إياه، منحتني به هبة الشعور بالنعم، بحب صغيري العظيم جداً، بالنعم الصغيرة والتفاصيل الأصغر، حب النباتات، وصدقة إطعام النحل والفراشات التي تقتات من رحيق الياسمين والأزهار التي تنبتها سبحانك على يداي، وهبتني به حب الحيوات الصغيرة التي تخرج بكلمتك "كن" فتكون.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات