كيف يصنع البحر الذكريات، كيف يعيدنا إلى الفطرة، كيف يحمل من روح مدنه وتحمل من روحه؟
درجت بشكل فطري على حب البحر وحب مدنه، المدن الساحلية حيث يعايش البحر حياة سكانها الدائمين ويعايشونه، في حين أنقبض بشدة في تلك الأخرى السياحية، أمقت كون البحر فيها موسم، مزار للغرباء لا هو يعبأ لهم، ولا هم يحدثونه، في مدن البحر حيث تسير الحياة بشكل دؤوب جنب إلى جنب مع امتداده، المدينة صدا للمد والجزر، القوارب والصيادين عرافوه وعرابوه، يعرفونه على محمل الصداقة ليس الكسب فقط، يغدون إليه مع كل باكورة صباح، يحمل مراكبهم وأدعيتهم وضحكاتهم في قلبه، في حين يحمل الغرباء في تلك المدن السياحية على سفوح يخوتهم الفخمة ووجبات الغداء الفاخرة على جلده، كطفح جلدي أو ربو ربيعي، يصاب به كل موسم صيف أو سياحة، هل قلت مدن سياحية؟! خطأ، أصحح مناطق سياحية، المدن أرواح توهب بطبائع ساكنيها، مدن البحر، يسكنها البحر، يسكن أهلها، يصبحون أهله يحملون من طبائعه ما يكون ملح أيامهم الهانئة أو الأخرى الصعبة والمؤلمة فيهم من غضبة البحر وملوحته، من زرقته وشفافيته وهدأته التي لا تؤمن، صفات حادة لا يرادفها الرمادي، أبيض أو أسوء، طيبة مجلجلة وصراحة لا يخالطها خجل، أحب المنازل التي تحاذيه التي أكل ملحه من وجهها فعمل فيها عمل تجاعيد الزمن بالبشرة النضرة، لكنها على تهالكها وجه البحر ورقة عتيقة خطها بملح أحاديثه، لا تلك التي تتعهدها الدولة بالترميم بشكل دوري – أقصد بالمناطق السياحية -فتبدو كممثلة في السبعين تخضع لعمليات تجميل بشكل دوري، لتحظي بنضرة فتاة العشرين فلا تحظي لا بنضرة الشباب ولا بوقار العمر، فقط شيء مشوه في نقطة على خط الوسط لا تلتقي من الجانبين، لهذا أحب الإسكندرية، كورنيش البحر في المنشية، محطة الرمل وسعد زغلول دون بوابات شواطئ أو تذاكر دخول، شوارعها القديمة المرصوفة بحجارة قديمة تشبه أيام الملكية، أحب إسطنبول -التي لم أزرها مطلقاً- فهي ليست مدينة تعيش على البحر، بل يعيش فيها البحر، أحب عكا القديمة بسورها العثماني ابن البحر، القفزات الحرة للأولاد عن السور إلى البحر، حيث يهب البحر الحرية، بعض الحرية في بلد محتل، يافا القديمة حيث يتلصص البحر من بين شقوق الأزقة والنوافذ الحديدية وأشجار المجنونة وتعريشات الياسمين، يتلصص على الأحاديث الدافئة والنظرات العاشقة، التي يبادلها إياه المحرومين منه، هل يمكن أن تعرف شعور أن تبلغ الخامسة والعشرين أو يزيد في بلد تبلغ مساحة شواطئه وموانيه الساحلية ما يزيد عن ثلاثة آلاف كيلو متر مربع، ولم ترى البحر ولو مرة واحدة إلا من شقوق البوسطة -عربة ترحيل الأسرى- كما تذكر إحدى الصديقات عن تجربتها في سجون الاحتلال، أحب كذلك قرى عكا المهجرة، الذيب وقرى قضاء حيفا قيسارية، الجليل الأعلى في فلسطين بكل بحره الأخاذ، أحب حيفا لكني أخشاها، وأحزن لها، جمالها السياحي المصطنع بأيدي المحتل، يطعن البحر، أثناء فترة الحجر المنزلي الطويلة، التي صاحبت جائحة الكوفيد-١٩، استفقدت البحر وبشدة، أبعد مما كنت أتصور، فقط لو كانت لي نافذة على البحر وفنجان قهوة كل صباح مقابل البحر، هل كان الحجر ليكون أقل وطئه، تراوحني على فترات متقاربة دفعات من الحنين للبحر، أضبط جهاز الحاسوب المتنقل، على فيروز وهي تغني شط اسكندرية يا شط الهوا...رحنا إسكندرية رمنا الهوا، الشيخ إمام وهو يغني بصوته الذي يشبه الموج، يا اسكندرية بحرك عجايب ... ياريت ينوبني ما الحب نايب، المقابلة الأولى للبحر بعد ما يقرب من خمسة أشهر متواصلة من الحجر المنزلي، من مطل لإحدى المقاهي على البحر وحفنة قهوة في كوب ورقي، على بعد سلسلة من كتل صخرية ضخمة، تصطف بيني وبين البحر، لم تكن المشاهدة عن بعد كالسائحين، لائقة بلقاء حبيب، بصوت قادم من ذكريات الطفولة يناديني البحر، للخطوات فوق رماله الناعمة، لأثر نصنعه لتمحوه موجة تتغلغل بين الأصابع وتزحف فوق الجلد، لملامسته في برودة الصخور أمام قلعة قايتباي، وسمرة الكفوف بعد لفحة شمس خفيفة على ملحه فوق الجلد ، تمنيت تبادل الأماكن مع عجوز فوق الصخر، قريب ينساب البحر بين القدمين ويبلل أطراف الثياب وسنارة تجذب أمل من موجة، مع حبيبين تجاورا على صخرة نزعا الأحذية والجوارب وتركا للموج مغازلة الأقدام الحافية، يتغلغل البحر في الجسد بالتلامس، ثم ينساب بعذوبة المعنى فقط إلي الذاكرة، أدركت كم تحجب تلك المقاهي مقابل البحر مصافحة البحر، مر ما يزيد عن العامين ولم ألامس البحر، ألقي عليه التحية مراراً في زيارات متكررة أشرب فنجان قهوة مقابله، أو في مقهي يحاذي الكورنيش لا أرى منه البحر لكن ارشف قهوتي بالتزامن مع وجه صديق وحديث صديق وعقلي بشكل بديهي يدرك أن البحر هناك في الخلفية ، فأسمع أحاديث الأصدقاء محمولة على أنغام الموج، أكمل مقالي هذا بعد مصيف عائلي لأربعة أيام في مدينة مرسى مطروح، هذه المرة أمام البحر بذات الحماس الطفولي المزامن لرحلات الصيف إلى الشاطئ، في اليوم الأول بمنطقة “عجيبة “حيث يحتضن الجبل البحر، تشرف على البحر في إطلالة بديعة مهيبة، لم أتمهل لم أفكر، نزعت الحذاء وضعته على الصخر، حذاء جديد جلدي منمق يشبه قفزات بدانتيل كلاسيكية تحجب ملامسة كف حبيب، انزلق عن الصخور بلطف مع تحذيرات متتاليه من الأهل والزوج أن تزل قدمي عن الصخر، نزلت، تبللت صافحت الأزرق صافحت الشفاف، حملت طفلي ذو العامين الذي يخوض تجربة البحر للمرة الأولى قلت : مرحبا! أنه البحر، تفاجأت بضحكاته، بدهشته، بجرأته رغم المقابلة الأولى، البحر فطرة، الأطفال أنقى صورها، يحبهم البحر ويحبونه، عدت أنا ذات الستة وعشرين عاماً إلى طفلة الثماني سنوات التي تعشق البحر، ولا يقدرها أحد في المكوث مطولا في البحر، في خوضه حتى يغمرها إلى الرقبة وحدود الفم، اكتفيت بغمر القدمين وتبليل أطراف فستاني المزهر، يعيدنا البحر إلى الفطرة الأولى إلى الشفافية، إلى الدهشة الأولى وإلى التسبيح البديهي الصادق أمام الخلق البديع، تعجبت كيف للبحر ما أن يبدوا في البعيد حذاء طريق السفر، أن يعيدنا إلى التطلع الأول، تتعلق به العيون بولع الصغار ما أن يبدوا هذا الأزرق البعيد الملتحم بالسماء كأنه طبقة منها بلون أغمق، لم يتثنى لي المكوث في البحر إلا اليوم الرابع والأخير، عادت بدي ذاكرت إلى الشابة المراهقة التي تعلمت دون معلم كيف تطفوا على الموج ولم أتعلم إلى اليوم كيف أسبح، فقط أستطيع هذه الوضعية من الطفو كورقة خريفية فوق سفح ماء، فقط أثق بالبحر أفرد اليدان، أتراجع وألقي بجسدي إلى الموج، بأمان تام بلطف يحملني البحر، أذناي داخله تسمع هدير الموج، وعينان على سماء قطنية بديعه ، كمن يطفو داخل عدسة مقعرة، أنا بؤرة العدسة، يتحدب البحر عن الجانبين، تلامس السماء سطحه والغيوم تحدثني... الكثير من الأغنيات للبحر لشاطئ الإسكندرية، لشاطئ الغرام وليلى مراد، لحيفا وعكا ويافا، أغنيات الهوا وأغنيات العودة، أغنيات الغربة، أغنية يحبها والدي إلى اليوم كثيرا وأحبها، بصوت منشدها الأشبه بصخرة يتكسر عندها الموج جوار سور عكا
هدي يا بحر هدي طولنا في غيبتنا
ودي سلامي ودي للأرض الي ربتنا
فهل يسمع البحر الأغنيات؟ ... نعم يسمع، يسمع روح المدينة، لهذا لا نجد من يغني لشرم الشيخ أو دهب أو الغردقة، لأنها مناطق وليست مدن لا تحمل شيء من الذكريات يحيطها البحر كجزء من الطبيعة لا جزء من الروح، الغرباء لا يحترمون البحر ولا يصنعون الذكرى.
وللحديث بقية...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات