ما مقدار الحقيقة التي تستطيع احتمالها؟ ما يدعو للعجب اليوم هو أن الجميع يمتلك آراءًا عن كل شيء،
عن كبرياء وضعف يتحدث الناس في كل شيء، رغم جهلهم أو معرفتهم الناقصة.ألا يرغب أحد بمعرفة جهله؟ أن يتطفل على تلك المناطق المظلمة في عقله تلك التي لم تنعم بنعمة الفهم. هل تمتلك الجرأة او الرغبة للوقوف أمام العالم معترفًا بأنك جاهل، جاهل جدًا!
لم أقابل شخصًا في حياتي -حسب ما أذكر- ينظر لنفسه على أنه شخص جاهل، الجميع يعرفون الحقيقة، الجميع مثاليون أو يسيرون نحوها، حتى أولئك الذين لم يفتحوا كتابًا ولم يرتادوا معهدًا للتعليم يخبرونك دومًا بأن الحياة علمتهم أكثر من أي شخص آخر، ولا يخلو نقاش من عبارة تصل إلى قد أكون أصغرهم لكن صدقني أمتلك من الفهم ما لم يصلوا له طيلة سنوات حياتهم،
وإن لم تقلها بصوت مرتفع تواضعًا قد تسرها في نفسك ولا تبديها لنا.
أما المثقفون المهذبون فيخبرونك بتواضع عالم يحترم جهلك: الحقيقة لا تحتاج إيمانك، تصديقك أو عدمه لا يهم،
أو يتمنون لك بالهداية، كل هذا بصيغة تشعرك بأنهم عبروا الطريق ووصلوا للقمة وينتظرونك يا مسكين لتصل إليهم، هذا إن استطعت!
أتساءل أحيانًا ما الذي نريده كبشر هل يوجد حقًا من يعبأ بالحقيقة؟ نريد الحقيقة لذاتها أم لذاتنا؟
لماذا لا نخوض رحلة نحو الحقيقة؟
سقراط أشهر فلاسفة العالم يعتبر أحد مؤسسي الفلسفة الغربية، أكثر الرجال حكمة في العالم القديم، إليه ينسب مبدأ: "أن تتبع البرهان إلى حيث يقودك"، فإلى أين قاد البرهان سقراط؟
حتى لا نطيل الطريق عليك قاده للموت، وليس أي موت بل الموت إعدامًا بالسم،
لكن لماذا؟ هل كان سقراط ثوريًا متمردًا أغضب القوانين وأثار سخطها عليه؟ على العكس تمامًا لقد كان يحترم القوانين ويدعو لاحترامها بل إنه رفض الهروب رفقة تلاميذه ليلة إعدامه.
وتقول عنه زوجته: "عندما كان يسير في الشوارع لم يكن يثير من حوله الضوضاء، مثل هذه الضوضاء التي تعكس خوف أولئك الذين يحملون الرماح والدروع، إن شجاعته لا مثيل لها وعليكم أن تدركوا جوهرها.".
لم يدّع سقراط يومًا المعرفة بل تكاد تنعدم المجالس التي جلسها دون أن يخبر من حوله: "أنا أعرف أنني لا أعرف شيئًا"
"أنا أعرف أنني لا أعرف شيئًا"
بل إن رده على زوجته حين كانت توبخه لتركهم ونفاد طعامهم، وتطلب منه تدريس أبناء الأغنياء بدل تلاميذه الذين لا يدفعون له أي مال بأن: "كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئًا وهذا النوع من المعرفة لا يدفع الناس المال للحصول عليها"
إذًا ماذا كانت تهمته؟
التهم الموجهة لسقراط:
- يفسد سقراط الشباب
- لا يؤمن سقراط بآلهة أثينا
- ابتدع سقراط معتقدات جديدة
ردود سقراط على هذه التهم:
أولًا: تهمة إفساد الشباب
هل كنت لتفضل العيش بمجتمع فيه أخيار أم مجتمع أشرار؟ أتعتقد أنه بينما أجعل من حولي أشرارًا فأنا لا أعرف أنني أعرض نفسي للشر الذي زرعته فيهم؟ هل تتوقع أن رجلًا في هذا العمر لا يعرف ذلك؟
ثانيًا: الإيمان بالآلهة
هل يعقل أن تؤمن بوجود أفعال بشرية بدون أن تؤمن بوجود البشر؟ هل من الممكن أن تؤمن بمظاهر القوة الخارقة دون أن تؤمن بالقوة نفسها؟ هل يمكن أن تؤمن بأعمال الآلهة بدون الإيمان بالآلهة؟
مشكلة سقراط كانت مع تعدد الآلهة، فهذا التعدد يحدث معضلة أخلاقية، وهو ما يظهر في حواره مع أوطيفرون، حين سأله إذا كان الخير ما تريده الآلهة وكانت الآلهة تتنازع كالبشر، فإن الفعل الذي قد تفعله قد يثير رضا إله وسخط آخر، فكيف للفعل أن يكون خيرًا وشرًا في الوقت ذاته؟
500 قاض ومتهم واحد
وجاء الوقت للتصويت هل كان القرار بيد شخص أو اثنين ليطغوا؟ على العكس كان شعب أثينا كله مشاركًا، أو لنقل من تنطبق عليهم شروط التصويت، والتي قد تكون مجحفة أو صعبة في بضع الأحيان المهم أن ٥٠٠ شخص قد حضروا وسمعوا والآن عليهم الإدلاء بصوتهم الذي قد يعني إنهاء أو إحياء حياة رجل بالسبعين، وليس أي رجل بل فيلسوفًا كسقراط.
ومن أصل ٥٠٠ شخص تم التصويت بفارق ٣٠ صوتًا لصالح إعدام سقراط!
إن مما يذكر في تفسير هذا الحكم أن سقراط خلال محكامته لم يستعطف الشعب، لم يبك أو يستنجد لتحريك عواطفهم، ليس هذا وحسب بس أثار عقولهم وسخطهم بإثارة عدد من القضايا أثناء دفاعه.
تخفيف الحكم
سمحت المحكمة لسقراط بأن يطلب تخفيف الحكم فوقف وقال: ما هي العقوبة التي يجب أن أقترحها عليكم؟
ما عقوبة رجل ضحى بحياته دائمآ لصالح أبناء وطنه؟ مثل هذا الرجل يجب أن تقدموا له جائزة حتى لا يحتاج المال في شيخوخته، هذا الكلام لا ينطبق علي أنا سقراط فقط، بل على جميع من فعل ذلك، وأقترح أن أوضع بمجلس الشيوخ.
هل كان سقراط يحاول استفزاز الجماهير مرة أخرى؟
هل كان يهزؤ بهم وبمجلسهم؟
لكنه تابع: وأقدم اقتراحًا آخر أن أدفع غرامة مالية وبما أني فقير ولا أملك المال، أقترح أن أنفى خارج البلاد وبما أن أبناء وطني لم يحتملوني فكيف سيحتملني الغرباء ؟
لذا أطلب طلبًا عادلًا أن أوضع في مجلس الشيوخ.
بعد تقديم سقراط اقتراحه بوضعه في مجلس الشيوخ ترفض المحكمة اقتراحاته وتثبت حكم الإعدام بحقه، لم يؤذهم لم يدَع علمًا لم يثر صخبًا لم يرفض قانونًا، ولكنه جعلهم يقفون أمام أكبر مخاوفهم، جعلهم يدركون حجم جهلهم وجهلهم أن جهلة، لم يكرهم لم يحاربهم ولم يستغل جهلهم بل قال لهم:
أيها الأثينيون إنني أحبكم لكن حبي لطاعة الله أكثر من حبي لكم، ولأنه هو الذي يأمرني فلن اتوقف عن التفكير وإعمال العقل حتى آخر نفس في حياتي، إن الذين اتهموني لم يثبت أحدهم أن كل ما أقوم به حقق لي أي مكاسب مادية، إن حياة الفقر التي أعيشها تدحض مزاعمهم
كل هذا لم يزل الظلم ولم يرفع حكم الإعدام، ودعهم سقراط قائلًا:
سوف نغادر المجلس وأنا محكوم علي بالموت، أما أنتم يا قضاتي فمحكوم عليكم بالحقيقة، حياتكم سوف تحمل وصمة الظلم الذي ارتكبتموه الآن، لكن الآن حان وقت الانفصال أنا أموت وأنتم تعيشون، أي المصيرين أفضل، الله وحده عنده الإجابة وداعًا.
آخراللحظات
يهلع تلاميذه إليه قبل إعدامه في محاولة لإقناعه بالهرب، لكنه وحتى نفسه الأخير يصر على احترام القانون، حتى يعطي الشباب القدوة في الامتثال لنظام الدولة التي قبل أن يحيا تحت قانونها، ولأن الفيلسوف لا ينبغي أن يخاف من الموت الذي يحرر الروح من سجن الجسد يقول لهم:
لو مت فليس هذا بسبب خطأ في القانون وإنما بسبب خطأ في الناس، ولو قابلت الظلم بالظلم والشر بالشر أكون قد انتهكت القيم النبيلة.
وفي ساعة إعدامه تنتحب زوجته قائلة: ولكنك بريء! فيجيبها بهدوء: وهل يسرك أن أعدم وأنا مدان؟!
هكذا أثينا وبغالبية أصوات شعبها أعدمت سقراط وهو في السبعين من عمره بالسم، لم تحترم علمه ولا فلسفته ولا تضحياته ولا كل ما قدمه لأثينا، لم تحترم حتى سنه وعجزه وشخيوخته.
لذلك ودائمًا قبل خوض غمار الحقيقة اسأل نفسك: ما مقدار الحقيقة التي تستطيع احتمالها؟ وما مقدار الثمن الذي تستطيع دفعه مقابلها؟!
المراجع:
- كتاب محاكمة سقراط لأفلاطون
- الفيلم الإيطالي: socrate
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
أشكرك مناار 💛💛
رائع, رائع . رائع 💕💕💕
جميلة هذه الفلسفة ندى🤍
أتمنى لكِ مسيرة موفقة ✊💛