كیف یمكن أن یكون فهم الموت شرط أساسي لفهم الحیاة ؟
في حوالي العام ١٦٧١ قام الفنان الفرنسي فيليب دي شامبين (Philippe de Champaigne) برسم لوحة فنية بعنوان ” ” الحياة الساكنة مع جمجمة”، (Still Life with a Skull) والتي تظهر أساسيات الوجود الثلاثة التولب (الحياة) ، والجمجمة (الموت)، والرملية (الوقت).
فكيف يمكن لهذه اللوحة الفنية أن تكشف لنا كیف یمكن أن یكون فهم الموت شرط أساسي لفهم الحیاة.
زهرة التولب (الحياة):
يقول الكاتب روبرت جرين(Robert Greene) في كتابه (قوانين الطبيعة البشرية) (laws of human nature) :
بأننا نقضي حياتنا في تجنب فكرة الموت وإذا ذكرنا به نفرنا منه كرها، مع أنه يجب أن تكون فكرة حتمية الموت سببا لنا بأن لا نهتم بالتفاهات ، أو أن نقلق كثيرًا بشأن ما يعتقده الناس عنا ، ومحاولة لكسب المزيد من المال أكثر مما يمكننا إنفاقه ، أو التخطيط بعيدًا في المستقبل كل هذا يبطل بالموت، فتدريب أنفسنا على مواجهة هذا الواقع وقبوله يجعل من السهل إدارة الأزمات الحياتية التي لا مفر منها. يعطينا إحساسًا بما يهم حقًا في هذا الوجود، يبحث معظم الناس باستمرار عن طرق لفصل أنفسهم عن الآخرين، بدلاً من ذلك يجب أن نرى بفكرة الموت المحتم على الجميع هو الشيء المشترك بيننا جميعا . فالموت هو الذي ساوى بين الإسكندر الكبير و سائق حماره بدفنها في نفس الأرض .
الساعة الرملية (الوقت) :
“هذا هو خطأنا الكبير: بإعتقادنا بأننا نتطلع إلى الموت، فقد ذهب معظم الموت بالفعل. ومهما مر من الوقت فإنه ملك للموت” – الفيلسوف الروماني سينكا (Seneca)
فهذا الوجود الذي نستمتع به الآن مقسم بالتساوي بين الحياة والموت. من يوم ميلادنا نتقدم يومًا واحدًا نحو القبر، الساعة الأولى التي أعطتنا الحياة أخذت من حياتنا ساعة أيضًا، فعندما نولد ، نموت وتبدأ النهاية مع البداية.
في قصة جاءت على لسان الموت أن تاجرٌ في بغداد أرسل خادمه إلى السوق ليأتيه برزق منه، وما لبث الخادم أن عاد شاحبا مرتجفا وقال: سيدي! بينما كنت في السوق زاحمتني امرأة في حشود الناس فالتفتُ إليها فإذا هو بالموت يزاحمني. لقد نظرت إليّ وأومأت إلي إيماءة كلها تهديد ووعيد، والآن أعطني جوادك حتى أمتطيه وأعدو به بعيدا عن المدينة هربا من مصيري المحتوم. سوف أذهب إلى سامراء، وهناك لن يجد الموت إلي سبيلا. دفع التاجر إليه بجواده، وامتطاه الخادم وغمزه بالمهماز وعدا الحصان بعزم ما فيه. ثم ذهب التاجر بعد ذلك إلى السوق ورآني واقفا وسط الزحام، فأقدم علي وقال: لماذا أومأتي إلى خادمي إيماءة التهديد عندما رآك هذا الصباح؟ قلت: لم تكن تلك إيماءة تهديد ووعيد، بل إيماءة تنم عن العجب والمفاجئة. لقد اعترتني الدهشة حين رأيته هنا في بغداد في حين أن لي موعد معه الليلة في سامراء.
من السهل نسيانه كما أنه أمر مخيف التفكير فيه … بالنظر إلى جميع التطورات الحديثة في التكنولوجيا ألا توجد فرصة لأن نعيش إلى الأبد؟
الجمجمة (الموت) :
يقول الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس : يمكن أن تغادر هذه الحياة في أي لحظة ، فأجعل من هذه الإمكانية مقياس لما تفكر فيه أو تقوله أو تفعله.
نجد رهبة كبيرة عند ذكر الموت تحرمنا من النوم في الليل ، لأنه يأتي إلينا جميعا و لا نعرف متى ، فنحن نشعر بالراحة عندما نعرف كل ما يحيط من حولنا إلا أن لغز الموت قد عذب عقول البشر على مر الزمان . كما يخبرنا ميشيل دي مونتين عن علاقتنا مع الموت:
“أن نحزن على أننا لن نكون على قيد الحياة بعد مائة عام ، كأننا ندم على أننا لم نكن على قيد الحياة قبل مائة عام. ” فكيف يمكننا التغلب على هذه الرهبة العظيمة ؟؟ بدلاً من الانغماس في الخوف من الموت ، يدعو مونتين إلى التغلب عليها من خلال مواجهته وجهاً لوجه ، بوعي واهتمام من خلال إبقاء الموت حاضرا في أذهاننا و التفكر في الوقت المحدود لنا على هذا الكوكب “فكر كل نهاية يوم عندما بأنه آخريوم لك ؛ وفي اليوم التالي كما هو غير متوقع ، سيكون موضع ترحيب أكبر. “
يتابع ماركوس أوريليوس قائلا : يجب أن تعيش حياتك كما لو كنت على استعداد لتوديعها في أي لحظة كما لو كان الوقت المتبقي مفاجأة سارة.
في واحدة من أكثر المشاهد إثارة للدهشة في الأدب والسينما. في Fight Club ، يدخل تايلر ديردن إلى متجر صغير يعمل على مدار الساعة ويضع بندقية على رأس أمين الصندوق. تصرف عنيف وقاسي .
يقول تايلر وهو يضغط المسدس على رأس الرجل: “أعطني محفظتك”. ثم يقرأ اسمه وعنوانه: “ماذا تريد أن تكون ، يسأل تايلر ، بعد رؤية بطاقة هوية الطالب منتهية الصلاحية في المحفظة. ثم يقبض على المسدس. “السؤال ، ريموند ، ماذا كنت تريد أن تكون؟”
تبدأ في التشنج في مقعدك وأنت تشاهد ذلك. من فضلك لا تقتله ، من فضلك لا تقتله، فأجابه الطالب: طبيب بيطري ، أراد أن يكون طبيبًا بيطريًا ، لكنه استسلم لأنه كان صعبًا جدًا ، والآن ها هو يعمل خلف منضدة. يعده تايلر ، الذي لا يزال يحمل المسدس في رأسه ، هذا الوعد: إذا لم يعد إلى المدرسة بحلول الوقت الذي يعود فيه خلال عام ، فسوف يقتله.
إنه مشهد مظلم بالتأكيد. لكنه غاية في الجمال ، كتب مؤلف نادي القتال تشاك بالاهنيوك في كتابه الجديد “ضع في اعتبارك هذا” (Consider This) : “يمارس تايلر شكلاً من أشكال الحب القاسي”. “تايلر يذكر الرجل بأهمية وقته ” وتذكير المشاهد باستمرار: لنتذكر أن هناك مسدسًا موجهًا نحو رؤوسنا دائمًا – وهو أنه ليس لدينا الوقت لنضيعه.
يتساءل سينيكا عن الأشخاص الذين يجب سحبهم من السرير: “هل تعتقد أن هؤلاء الرجال يعرفون كيف يعيشون ، إذا كانوا لا يعرفون متى يعيشون؟ هل يخشى هؤلاء الرجال الموت إذا كانوا قد دفنوا أحياء تحت غطاء الفراش ؟
فهل الحياة التي تعيشها مختلفة حقًا عن الموت؟
قال تولستوي ، “إذا وضعنا في الاعتبار أننا سنموت حتمًا ، فستكون حياتنا مختلفة تمامًا”.
فالحياة ما هي إلا نهج مستمر نحو الموت. لذلك ، يمكن أن تكون الحياة نعمة عندما لا يبدو الموت شرًا، بدلاً من الانغماس في الخوف من الموت ، يدعو ميشيل دي مونتين( Michel de Montaigne) إلى مواجهته وجهاً لوجه ، بوعي واهتمام كما في النهج الروحاني الشائع في الشرق :
لنتعلم بشجاعة أن نقف ونحاربه. و نحرمه من أعظم سطوة يمتلكها علينا ، فلنأخذ إتجاها عكس المتعارف عليه ، دعونا ننزع سلاحه من غرابته ، دعونا نتعرف عليه ، بأن يكون حاضرا في أذهاننا بكافة أشكاله في كل وقت، ونقول لأنفسنا ، “حسنا ، وماذا لو كان الموت في حد ذاته؟” لنحصن أنفسنا. دعونا في خضم فرحنا واحتفالنا أن نضع ذكرى حالتنا الهشة أمام أعيننا .
هذه أكثر من ٣٠٠٠ سنة من الحكمة حول موضوع الموت وسيستمر بعدنا أيضًا ، بالنسبة لمعظم التاريخ كان ممارسة. حيث أنك تجد على المكاتب جماجم لتذكير الناس بضرورة الحياة و على جدرانهم لوحات من الهياكل العظمية ، الساعة الرملية ، الشموع المطفأة ، وأزهار التولب الذابلة في جيوبهم، و حملوا ميداليات تذكارية . تقول إليزابيث ولش ، وهي أمينة فنية في متحف بلانتون ، “لم تكن مجرد استجابة معممة للوفيات ، ولكن بدلاً من ذلك على وجه التحديد مستوى اجتماعي أدائي يمكن استخدامه من قبل المسيحيين في العصور الوسطى المتأخرة للتفكير في الوفيات وحتمية الموت.”
قد يكون هذا آخر يوم لك على هذا الكوكب ، علينا استخدام الموت كأداة ، علينا استخدامه كحافز لتحريكنا إلى الأمام ، علينا أن نستخدمه كتذكير لما هو مهم حقًا و علينا أن نكون أفضل لأننا لا نعرف كم من الوقت لدينا.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات