بعد أكثر من ٢٠٠٠ عام لماذا نسمح لأغلى مورد أن يضيع من أيدينا ؟



كلنا سمعنا قول الشافعي عن الوقت عدة مرات في حياتنا :


نعيب زماننا والعيب فينا… ومال زماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب… ولو نطق الزمان لنا هجانا.

.

لكن هل تسآلت عن الذنب الذي اقترفناه لنستحق هجاء زماننا ؟


مع أن الوقت هو المورد الذي لا غنى عنه ولا يمكننا شراء المزيد منها، ولا إستعادة ثانية منه، لا يمكننا إلا أن نأمل أن نضيع أقل قدر ممكن منه ومع ذلك، فإننا نتعامل معه على أنه من أكثر الموارد تجددا.


كتب الفيلسوف الروماني سينيكا (Seneca) باستمرار عن الوقت ملاحظاً كيفية حماية الناس لأموالهم وممتلكاتهم، ولكنهم لا يهتمون بالشيء الوحيد الذي لا يمكنهم الحصول عليه حيث قال: “لا يسمح الرجل لأي شخص بالاستيلاء على ممتلكاته، وإذا كان هناك أدنى نزاع حول حدوده يندفعون إلى الحجارة والأسلحة، لكنهم يسمحون للآخرين بالتعدي على حياتهم، لماذا؟ حتى أنهم يدعون الأشخاص الذين يعملون على الإستيلاء على حياتهم وإضاعة وقتهم، فلن تجد أحداً على استعداد لمشاركة أمواله ولكن كم من يقسم حياته؟! الناس مقتصدون في حراسة ممتلكاتهم الشخصية، ولكن بمجرد أن يتعلق الأمر بهدر الوقت، فإنهم يبددون الشيء الوحيد الذي يجب أن يكونوا مقتصدين فيه.”

وفي رسالة أخرى لصديقه بولونيوس (Paulinus) يقول :


“ليس لدينا وقت قصير، لكننا نضيع الكثير منه، الحياة طويلة بما فيه الكفاية، وقد أعطيت لنا بما فيه الكفاية للسماح لإنجاز أعظم الأشياء إذا تم استثمارها بالكامل، ولكن عندما نهدرها في الترف والإهمال ويتم تكريسها لأهداف غير مفيدة، و لم نعرف أهمية الوقت الذي أضعناه إلا بعد فوات الأوان ونحن على فراش الموت، إذاً فالحياة التي نتلقاها ليست قصيرة وليس لدينا أي نقص فيها ، ولكننا نضيعها.”


بعد أكثر من ٢٠٠٠ عام لماذا نسمح لأغلى مورد أن يضيع من أيدينا ؟


عندما تصبح كل لحظة من حياتنا من الصباح إلى المساء بين مزامير السيارات و الإشعارات القادمة من هواتفنا النقالة وشبكات التواصل الإجتماعي والأخبار والوظيفة، ففعلنا ينقسم بأقسام الزمان: حاضر قصير، مستقبل مشكوك فيه، ماضي مؤكد، فلا نضيع ليلنا قلقا على نهارنا، ونهارنا قلقا على ليلنا.


توصلت الأبحاث التي أجراها موقع (eMarketer) إلى أنه في عام ٢٠١٩ سوف ينفق المواطن الأمريكي البالغ قرابة ثلاث ساعات يوميًا على الأجهزة المحمولة، ما يعادل ٤٥ يومًا في السنة، فكر في كمية الوقت الضائع !! وما الشيء المستفاد من ١٣٪ من حياتك التي تذهب هباءاً منثوراً على هاتفك المحمول؟


نتفاخر في قتلنا للوقت ، عند تصفحنا لهواتفنا نمشي ورؤوسنا للأسفل، ملتصقة ببعض مقاطع الفيديو على (YouTube) ، نختلس النظر بين الحين والآخر خوفا من أن نصطدم في عمود كهربائي.

فكر في كمية الأفكار التي تغمرنا عندما نتصفح وسائل التواصل الإجتماعي من دون وعي، حيث تم إنشائها بهدف إبقائك عليها لمدة أطول عن طريق إظهار ما تشاء، حتى الأخبار عن طريق تنويمك واستعمال غضبك ضدك بإدمانك على متابعة الأخبار بشكل دائم لها نفس هذه الدوافع، حتى يصبح مالك وانتباهك مربحاًً لهم.


المشكلة لا تنحصر في الشاشات الصغيرة في جيوبنا، فنحن نعيش في أوج العصر الذهبي للتلفزيون هناك المئات من البرامج التلفزيونية على شبكات البث التي تتطلب اهتمامنا، في عام ٢٠١٩ تم تحميل أكثر من ٥٠٠ ساعة من مقاطع الفيديو الجديدة على (YouTube) كل دقيقة (ما يعادل ٨٢ عامًا من محتوى الفيديو يومياً) يمكن لأي شخص الاشتراك في مئات القنوات بسهولة، مترتبة على هذا تعريض أنفسنا لآلاف الساعات من المحتوى الجديد يوميا، وفقا ل (Statista) في عام ٢٠١٩ سوف يقضي الشخص العادي ثلاث ساعات ونصف تقريبا في مشاهدة التلفزيون، هذا هو الوقت الذي تقضيه في الاستهلاك السلبي مما يسمح بمرور المعلومات مرور الكرام بدلا من استيعابها .


لفترة ليست ببعيدة كانت الناس تعيش بشكل طبيعي من دون هذه التكنولوجيا ، جرت الكثير من الحوارات والنقاشات العميقة والمتواصلة وتغلبنا على مشاكل صعبة، لكن بالوقت الحالي أصبحنا نلجأ لها من دون أي وعي عندما نحتاج أن نفكر أوعندما يخيم الصمت في مجلس ما، أو لمجرد أننا نجلس وحدنا كما قال بليز باسكال (Blaise Pascal) : “جميع مشاكل الإنسانية تنبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده” من المضحك كيف بليز باسكال منذ أكثر من ٣٠٠ سنة أن يسترعي انتباهنا، ويعلمنا شيئًا أو اثنين عن أنفسنا في وقتنا الحالي.


ومع ذلك كم مرة نردد “لا يمكنني إيجاد الوقت لفعل كذا وكذا “؟ الحقيقة هي أنه يمكنك بسهولة العثور على الوقت لكنا نرفض قبول حقيقة أنه يتطلب مقايضة الوقت الضائع على شيء ما واستثماره بشيء يعود علينا بالفائدة .


قال أرسطو (Aristotle) : “نحن ما نقوم به مرارًا وتكرارًا” وبالتالي “فإن التميز ليس فعلًا بل عادة.” وبعد بضع مئات من السنين الفيلسوف إبكتيتوس (Epictetus) واصفاً : “السبب الرئيسي في ترسيخ عادة معينة يكون بالتكرار، مثلاً المشي عن طريق السير على الأقدام ، والركض بالركض … لذلك إذا كنت تريد أن تفعل شيئًا ما، إجعل منه عادة، نفس المبدأ بما يتعلق بحالتنا الذهنية، عندما نغضب فإننا نرسخ عادة الغضب لدينا.”

متوسط عمرنا ٧٢ عاماً، لوهلة نظن أنه وقت طويل، لذلك يمكننا إضاعة ٢٠ دقيقة هنا أو هناك لكن لا ندرك أن الموت يخيم علينا جميعًا.


علينا أن نتذكر، كما أخبرنا سينيكا، أن موتنا وشيخوختنا ليست أشياء تحدث لنا في المستقبل، لكنها تحدث لنا كل يوم، لذلك لا يجب ا أن نتفاجأ بالوقت يجب أن نفكر في ذلك دائما، عندها نتأكد من أننا نعيش اليوم، وأننا لا نترك شيئًا لم يكتمل بعد أو دون حل، فهذا واجبنا تجاه أنفسنا والآخرين.


في كتابه الأخير “قوانين الطبيعة البشرية” يختتم روبرت غرين (Robert Greene) فصله الأخير عن كيف يكون الموت واعظا لنا لاستغلال كل دقيقة من حياتنا: “يجب أن تكون حتمية الموت حاضرة في أذهاننا باستمرار، عندما نتذكر محدودية وقتنا على كوكب الأرض، يساهم هذا الإدراك بتغير وجهة نظرنا تجاه أهدافنا والأشياء المهمة في جميع جوانب حياتنا، عندما نمر في مشكلة أو تشتت انتباهنا أو ننقطع عن من حولنا، تذكر ما تحدث عنه ماركوس أوريليوس وسينيكا و ابيكتيتوس في كثير من الأحيان كتب ماركوس “يمكننا أن نترك الحياة في أي وقت دع ذلك يحدد ما تفعله وتقوله وما تفكر فيه ليس الهدف من هذا أن تشعر بالحزن والأسى على ما فاتنا أو أننا سنموت في أي لحظة، لكن بالعكس : أن تتذكر قيمة وقتك وأن كل دقيقة تقضيها بلا هدف هو وقت ثمين كان يمكن أن تقضيه في قراءة كتاب.”


لدينا حياة واحدة!! بمجرد مرور الوقت، لن يعود أبدًا نعم كل واحد منا سيموت، هذه حقيقة لكن في الوقت الحالي نحن على قيد الحياة، وهذا هو السبب في أننا يجب أن نعيش، ولهذا السبب علينا حماية وقتنا لا يمكننا التخلي عنه دقيقة بعد دقيقة، لا يمكننا البدء بالموت قبل وقتنا، علينا أن نعيش الآن ما زال في استطاعتنا.


يقول علي الطنطاوي: ” الإنسان مغرور فيه طول الأمل، فهو (غريزة) في نفسه، لذلك كان الموت أقرب شيء في حواسنا منا، وأبعد شيء في أفكارنا عنا.”


فكما قال أبو الطيب المتنبي ناصحا: لا تلق دهرك إلا غير مكترث ….. مادام يصحب فيه روحك البدن

فما يدوم سرور ما سررت به ….. ولا يرد عليك الفائت الحزن

saffha/صفحة

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

الوقت كنز و هدية من الله لنفلح فوق الأرض و نصنع جميلا... شكرا على التذكير بأهميته.

إقرأ المزيد من تدوينات saffha/صفحة

تدوينات ذات صلة