حين يصيب الأرق طفلةً في العاشرة لها في الخيال باع، مخلفاً وراءه ذكريات لساحات معارك لم يكتب لها أن تكون.
كحال كل الأطفال، امتلكتُ مخيلةً خصبة في صغري. و معها - المخيلة الخصبة - يأتي الخوف من الكائنات التي تتحرك سراً في الظلام و تقتاتُ على الصغار. بدأً من العاشرة بشكل خاص، قضيتُ ليالٍ لا تحصى من الأرق في انتظار أن تبارح العفاريتُ مطارحها المظلمة و تخرج من تحت الأرض كاشفةً عن نفسها لي أخيراً. الآن باسترجاع هذه الذكريات، أرى طفلةً يذرع العرق البارد جبينها و جسدها بأكمله، تنتظر في خوف و هلعٍ يتخطيان عنان السماء، و لكنها في الوقت ذاته تضيق عينيها نحو كلِ ظلٍ في فضول، متساءلةً، هل يكون هذا هو ذيل العفريت أخيراً؟ هل يوفر عليها الخوف و الليل و يخرج فتصرخ و توقظ جدتها و ينتهي الأمر برمته و لا يعود العفريت أبداً؟ ما الذي سيحدث بعد أن يعرب العفريت عن وجوده حقاً؟
في تلك الأيام - وحتى الآن- كانت جدتي تمتلك جهاز راديو عتيقاً جداً، و كنا حين نقصد مضاجعنا تشغله على محطة القرآن الكريم، و ياللعجب كم كان صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يؤنس وحشة ليلي المكلل بطول الانتظار و الأرق، ينتظر معي ظهور العفريت، ليصارعه. فأطمئن، أنني لستُ وحدي المستفيقة في هذا الليل الطويل، و العفاريت لابد تدرك هذا!
هكذا كان الحال، محتملاً و مقدوراً عليه بالنسبة لطفلةٍ في العاشرة، حتى استعار أحدهم الراديو ذات ليلةٍ، و كانت تلك، الليلة الأكثر وحشةً في حياتي حتى الآن. لم أنم تلك الليلة إلا حين سمعتُ أذان الفجر من المسجد القريب، و قد كنتُ قضيت الليل بطوله أتقلب في الجهة المقابلة للحائط، موليةً ظهري لكل المخلوقات التي كانت تتراقص من خلفي. لم أكن نائمةً في الغرفة بمفردي، كان معي شخصان آخران على الأقل، و لكنني كنتُ الوحيدة المستيقظة. كنتُ وحدي. و لم يكن الشيخ عبد الباسط معي.
لا أعرف كيف كونت هذا الارتباط العميق بصوت أحدهم، لكن لازلتُ حتى اليوم أستشعر الإحساس بالراحة ذاته، لدى سماعي تلاوة الشيخ عبد الباسط، على الرغم من أنني لم أعد أخاف من العفاريت ولا حتى من الظلام. تأخذني تلاوته سريعاً إلى تلك الليالي، و تلك المعارك الوهمية التي كنتُ دوماً بانتظار أن نخوضها معاً أنا و صوته...!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات