وجدتني أخيراً أترك المعنى ينفلتٌ من بيني أصابعي -يجرحني بينما ينفلت- وأدركتُ أنه عمرٌ ضائع وأن الاقتراب إلى هذا الحد من أي معنى لا يجني صاحبه منه إلا الأسى

تقول التعاليم الهندوسية، أننا لا نذهب إلى الجنة أو إلى النار حين نموت، لأن الجزء الأبدي منا - الروح- يعيش في حلقة متواصلة من الموت و الولادة. كلما كنتَ طيباً في حياتك الحالية فلن تعاني في حياتك التالية، و هكذا، حتى تصل إلى الخلاص و تعود إلى العدم. و على العكس، كلما كنتَ بغيضاً في حياتك الحالية فستعاني في حيواتك التالية و لن تحصل أبداً على الخلاص. في الهندوسية، هذه الدائرة المغلقة التي لا تنتهي فيها المعاناة، هي الجحيم الذي نعيشه هنا على الأرض.

في سياقٍ مشابه، لدي جحيمي الخاص، و الذي بالضرورة يأخذ تسلسلاً دائرياً في الأحداث - الدائرة دائماً تجعل الأمور رتيبة!

لدي هوس بفقدان الإحساس بقيمة الأشياء -معاني الأشياء على وجه الخصوص.

تبدأ الدائرة الجهنمية على النحو التالي؛ يولد لدي إيمانٌ عميق بشيءٍ ما، و أكاد أبذل أي شيءٍ في سبيله، و بالفعل أضع فيه كل طاقتي و شغفي، و ما يلبث إلا أن يخمد بعد وقت، ليس الشغف، بل الإيمان بأن أياً من كل هذه الطاقة و الشغف كفيلٌ بالإضافة إلى المعنى الذي أقتطع من عمري لأغذيه، و لا يكبر إلا الخيبة و قلة الحيلة، دائماً الخيبة و قلة الحيلة.

في البداية عذبتني الدائرة مع الكتابة، كتبتُ كثيراً، كثيراً جداً، قال الجميع أن لدى مستقبلاً واعداً و لا بد سأصير يوما كاتبةً مشهورة، ثم توقفت، بدون أي مقدمات، توقفت. لم أفهم. قلتُ ربما جف البحر الذي كان يجري فيما مضى، ربما يعود يجري بعد وقت، مرت أعوام بالكاد كتبتُ فيها أي شيء -على شاكلة هذا النص، لا أعمال روائية- و باتت الكتابة أقرب ما يكون إلى حلم بعيد من حياةٍ سابقة!

كنتُ دوماً أقول كلما سألني أحدهم عن سبب انقطاعي "الكتابة طريقة للتعبير، و أنا لم يعد لدي ما أقوله".

الآن بعد أعوام أدرك لماذا انقطع الإمداد و خمدت الموهبة. الحقيقة أنه على العكس، كان لدي الكثير من الأمور لأقولها، أمورٌ تقض مضجعي و تصيبني بالكآبة لأيام، لكنها فاقت قدرتي و قدرة اللغة التي أعرفها على التعبير، فكأنني نزار إذ يقول لحبيبته "أكثر ما يعذبني في اللغة أنها لا تكفيكِ، و أكثر ما يضايقني في الكتابة أنها لا تكتبك". عندها أدركتُ بشكل ما أن الكتابة فقدت معناها لأنني لم أعد أؤمن بقدرتها على التغيير - عدلتُ عن هذه الفكرة حالياً.

لاحقاً، و كلما نضجت أكثر، ازداد الألم و ازدادت معاناة العيش في الدائرة الجهنمية. مؤخراً، اتخذت شكلها الأسوء و الأكثر سوداوية، حين تداعت كل الأصنام التي آمنت بها عن إمكانية تحقيق تغيير مجتمعي ملموس، بعد أعوام تراكمت فيها مئات المحاولات الفردية و الجماعية كجبلٍ عالٍ مجوف- أشعر به ينهار فوق رأسي-، و النقاشات التي لا تُفضي غالباً لأي شيءٍ حقيقي، وجدتني أخيراً أترك المعنى ينفلتٌ من بيني أصابعي -يجرحني بينما ينفلت- و أدركتُ أنه عمرٌ ضائع... وأن الاقتراب إلى هذا الحد من أي معنى لا يجني صاحبه منه إلا الأسى.


الخلاص - في الهندوسية- يكمن في التحرر من هذه الدائرة، و التحرر من الدائرة يُوجب في كل مرةٍ نعيشها أن نحافظ -بشق الأنفس- على قلبٍ طيب خلال كل المعاناة التي تطوقنا. لا يبدو الأمر سهلاً، لكنه ربما يستحق العناء.. و ربما يكون مجرد بداية أخرى للدائرة!




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

ربما ليس هو جحيمًا بل نضجًا..
"و أدركتُ أنه عمرٌ ضائع" لم يكن عمرًا ضائعًا البتة بل كانت أوقات لبناء قناعات جديدة داخلى. ربما علينا أن ننظر للمعنى من مسافة غير لصيقة لنرى الصورة كاملة بوضوح أكثر.
ربما علينا أن ننظر لدوائر حياتنا كما لو كنا فى مدينة الملاهى، ليس علينا أن نطمح دائمًا فى أن نستقل العربة الأولى فى قطار الملاهى والتى قد نتوهم أنها هى التى تقود الباقى!
كتاباتك الجميلة مثل مياه الأمطار التى عليها النزول باستمرار لتنحت وسط الصخور مجرى للنهر.

إقرأ المزيد من تدوينات رُفيدة رشوان

تدوينات ذات صلة