عن الوحش الذي رافقني لسنوات، جاثماً فوق رأسي، متغذياً على طاقتي..

من الشائع – في أفلام الرعب الأمريكية على الأقل- أن يخاف الأطفال من الوحش الذي يختبيء في الخزانة، يخشون وقت النوم الذي يصيرون فيه على انفراد مع ذلك الكيان الشيطاني، الذي عادةً ما يمتلك ثقباً في داخله يبتلع فيه أرواح أولئك الصغار. أعرف كل هذا بحكم انغماسي في عالم أفلام الرعب منذ نعومة أظافري، و أكثر، لأنني كنتُ على علاقة بهذا الوحش لوقتٍ طويل. لكن وحشي لم يمتلك جسداً، لا قرون أو حوافر، و لا حتى ذيل. لم يكن يعيش في الخزانة، بل فوق رأسي. أحمله معي أينما ذهبت. ثقيلاً كجبلٍ عتيق، أو بتعبير آخر كان يستخدمه العرب قديماً؛"أثقل من رضوى" و رضوى هو جبلٌ ضخمٌ في شبه الجزيرة العربية.


لربما كان الشيء المشترك بين الوحش الذي يعيش فوق رأسي، و وحش الأفلام، هو أن كليهما يمتلك ثقباً أصمت، لا قاع له، يتغذى على الأرواح. وحشي لم يكن من عالم موازٍ أو بعد آخر، لم يكن إلا الذنب. الإحساس المغدق بالذنب و تأنيب الذات و جلدها.


حتى وقتٍ قريب، كنتُ أسير الأرض أحمل جبلاً من الذنب فوق رأسي. يصحبني أينما ذهبت. استشعر ثقله في كل مفاصلي.


بدأ الوحش بالتكون في آخر سنةٍ لي في المدرسة الابتدائية، أو هذا ما أذكر. لم أكن وقتها أخطو خطواتي الأولى في عالم المراهقة فحسب، بل في بلدٍ جديد. كانت خطوات حذرة و مترددة على أي حال. شاهدتُ مصادفةً مقطع فيديو لمجموعة من المتظاهرين يصدمون شرطياً بسيارة دفع رباعي. يقع الشرطي أرضاً، فيعودون لدهسه، مراراً. ثم و حين كان يلفظ أنفاسه الأخيرة و روحه تتهيأ للصعود إلى خالقها، يأتون بقطعة خشبٍ تبرز منها العديد من المسامير فيدقون رأسه بها حتى يكاد يتفجر. أعتذر عن الوصف الدقيق لهذه الحادثة الوحشية، لكنني أتذكرها بمثل هذا التفصيل. انزويت يومها أسفل السرير و باشرت بكاءً هستيرياً استمر لساعات. شعرت يومها بالهلع من القدرات الفتاكة للجنس البشري، و آلمني الإحساس بغياب العدل، و ضمن مجموعة نابضة من مشاعر الألم و العجز، كان الذنب حاضراً بقوة، لسبب لا أكاد أقترب حتى من فهمه.لماذا يُغرق الذنب طفلةً في الحاديةَ عشرة من عمرها على جرمٍ لم ترتكبه؟ لا أدري.لكنني أدري أن تلك الفترة كانت بشكلٍ عام بداية اضطربات عظيمة في صحتي النفسية لستُ بصدد الحديث عنها في هذا السياق إلا استطراداً. منذ تلك الحادثة بدأ الوحش يكبر، حتى وقتٍ لاحقٍ، بعد سنوات من تغذيته، صار يراودني إحساس بالذنب تجاه كل ما قد يحدث في العالم من حولي، كل الأحداث المؤرقة، و حتى التي قد تبدو عاديةً و مألوفة للبعض. مصادفة المتسولين و أطفال الشوارع تشعرني بالذنب. الذنب بسبب ما لا يملكون، و أملك. ما لا يحظون به، و أحظى به. ثقب الأوزون. كل الحروب والصراعات. إخفاقات أصدقائي و إخوتي الشخصية. التجاعيد على وجه والديّ. شعرتُ بأثمال من الذنب المغدق على كل ما اقترفته، و على كل ما لم أقترفه كذلك. كنتُ كثيرة الاعتذار بشكل لا يُحتمل.


بعد عدة سنوات من التعايش مع هذا الوحش، أصبح جزءاً من رأسي، حتى فقدت كل احترامي لذاتي، وأصبحتُ أحتقرها، و باتت العين التي أنظر بها إلى انجازاتي، عمياء. و رغم كونه – الوحش- قابعاً فوق رأسي طيلة الوقت، إلا أنه - كوحوش أفلام الرعب- كان يتحين الفرص التي يستيقظ فيها بتأنٍ و ذكاء ليتسبب بأكبر قدرٍ من الضرر و الأذى، دون مجهود يُذكر. و لو أن لي أن أفترض أن للاكتئاب المرضي جسداً، فأنا أؤمن أن لبه/قلبه هو الذنب، الذي يفضي بدوره إلى جلد الذات و احتقارها، العناصر الثلاثة الأساسية في وصفة تحضير الاكتئاب.


بمساعدة الكثير من الأشخاص، أدركتُ الحقيقة المؤلمة، أنني في كل مرةٍ اخترتُ أن يُسقط بيدي و أدع الوحش يعبث بمشاعري. اخترتُ التسليم له. ربما لأنه كان من الأسهل عدم المقاومة. ربما لأنني لم أملك القدرة النفسية الكافية للمقاومة. السبب لا يهم فعلاً. المهم أنني توقفت. توقفت عن إطعام الوحش و إطاعته.لم يكن من السهل تجويع الوحش حتى الموت، تطلب الأمر أكثر من عام. و لازال يعود في بعض الأيام التي يغشاها البؤس. لكنه لم يعد يبقى كثيراً. لم يعد يبقى على الإطلاق. لأنني لم أعد أهابه. لأنه لم يعد وحشاً.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

طريقتك في الوصف رااائعة جدا ننتظر منك المزيد بشغف

إقرأ المزيد من تدوينات رُفيدة رشوان

تدوينات ذات صلة