لكل هرم قمة .. وأشباه الموصلات هي قمة هرم التقنية ..

تتسابق الدول الكبرى والشركات العملاقة هذه الأيام على الدخول في صناعة أشباه الموصلات، والتي تعرف على وجه العموم بالرقائق الإلكترونية (Chips)، لسد الاحتياج الهائل والمتعاظم لها، كيف لا..فهي تتغلغل في حياتنا بشكل مذهل إبتداءً من الريموت الذي نتخير به مانشاهد من مسلسلات إلى مكنة تحضير الاسبريسو ومرورًا بالسيارات إلى الأجهزة الطبية ووصولاً إلى المركبات الفضائية والأقمار الصناعية، ولا يمكن أن لانذكر الهواتف والملبوسات الذكية وانترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي التي نقلت الطلب عليها إلى مراحل غير مسبوقة، كما أن الانفجار الهائل في عالم البرمجيات و تطبيقاتها والشركات الناشئة القائمة عليها، يقف على إرث ضخم متنامٍ من أشباه الموصلات التي سوغت وجودها.


إن صناعة أشباه الموصلات وسلاسل إمداداتها معقدة للغاية و ذات كلفة هائلة ، فهي تمثل مجالاً تتزاوج فيه العلوم البحتة والهندسة التطبيقية بشكل مثير. فهي تتطلب معدات لديها القدرة على تحويل الخواص الفيزيائية والكيميائية للمواد إلى تقنيات تمكنها من تكسية أسطح رقائق السليكون بطبقات يصل سمكها إلى مقاس الذرة، وترسم وتشق عليها أخاديد ومنعطفات معقدة على هيئة طبقات متعددة بمقاسات نانومترية تستخدم كطرق تسير فيها الإلكترونات المتناهية الصغر بحركة منتظمة حسب الأوامر التي تصلها في مشهد خيالي لاتراه العين وتمثله المعادلات الرياضية المعقدة، لتنتج للمستخدم دائرة إلكترونية معقدة البنية والتراكيب سهلة الاستخدام بضغطة الأزرار.


تتكون تلك الصناعة من مراحل متعددة تبدأ بالتصميم، الذي هو فن مثل ماهو علم وممارسة حميمة، إلى عمليات التصنيع في مايعرف بال(fabs) التي تتطلب دقة هائلة ومعدات ومرافق ومواد ذات مواصفات خاصة يصعب تحقيقها والحفاظ عليها، فهي تتطلب درجة فائقة من النظافة تفوق غرف العلميات الجراحية بأضعاف، و تحتاج إلى دقة متناهية للتحكم في بيئتها من ماء وكهرباء وحرارة ورطوبة بل وحتى في درجة نقاوة و طريقة تدفق الهواء داخلها، وتتخللها مراحل متعددة للقياس والتحقق من جودة منتجاتها ومطابقتها للمقصود من التصميم ومن ثم تغليفها في مغلفات خاصة.تنتقل بعدها الرقائق إلى المصانع لتجمع على اللوحات الإلكترونية مع بقية رفيقاتها من العناصر لتستقر إما في جهاز زهيد الثمن يساعدك في البحث عن مفاتيحك المفقودة، أو في كاميرة ثمينة تبصر بعيدًا في عمق الظلام وتميز أدق التفاصيل.


تتطلب تلك الصناعة أيضًا، وجود طاقات بشرية عالية التأهيل العلمي والتقني وذات قدرات ابتكارية وانضباطية متميزة، يتطلب استقطابها وتدريبها وقتًا وجهدًا واستثمارًا هائلاً، لتحقيق متطلبات التصميم والتصنيع والقياس والتغليف والتطوير المستمر. إن جميع تلك المكونات ضروري جدًا للنجاح، وعدم توفر أحدها كفيل بخلخلة منظومة هذه الصناعة المتقدمة، ومما يزيد من حساسيتها أن مالكي تقنياتها و مصنعي معداتها وموردي موادها والقادرين على بناء مرافقها وتشغيلها وصيانتها وتصنيع منتجاتها من ندرة الندرة على مستوى العالم أجمع، مما يجعلها تتربع على رأس الهرم الصناعي دون منافس.


لذا فقد اكتفت كثير من الدول والشركات بشراءها، وقلة منها احتفظت بقدرات تصميمها وأتقنت علم و فن إدارة سلاسل الإمدادات لتصنيع النماذج الأولية والتصنيع الكمي حول العالم، وهو تصرف متوقع حيث أن تكاليف التصميم، رغم صعوبته، لاتوازي تكاليف بناء المعامل والمصانع والحفاظ عليها وتطويرها وأتمتتها لتواكب متطلبات التصميم المتسارعة التي تكاد تتجاوز حدود قانون مور الذي رسم منحنى توقع تصاغر أحجام الترانزستورات و زيادة قدراتها وانخفاض تكلفتها. أدى ذلك إلى تركز القدرات التصنيعية في كيانات محدودة جدًا أخذت في النمو المتسارع لتغطي الاحتياج العالمي المتعاظم بكفاءة وأسعار تصعب منافستها حتى من أعتى الدول الصناعية.

ومما يزيد من حساسية تلك الصناعة، أن مالكي تقنياتها و مصنعي معداتها وموردي موادها والقادرين على بناء مرافقها وتشغيلها وتصنيع منتجاتها من ندرة الندرة على مستوى العالم أجمع، مما يجعلها تتربع على رأس الهرم الصناعي دون منافس.


عندما حلت جائحة كورونا وتوقفت مصانع السيارات وماشابهها من الصناعات الضخمة، انخفضت الطاقة الإنتاجية للمصانع والمعامل، لكن تصاعد الطلب على الكمبيوترات والأجهزة المحمولة فضلاً عن النمو المستمر أصلاً للذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء والثورة الصناعية الرابعة المتمثلة بالمصانع الذكية وخلافها، تسبب في اختناقاتٍ هائلة وأزمنة توريد متطاولة لتلك الشرائح في قطاعات متعددة منها الاستهلاكي البحت الذي لايحتمل الانتظار. ومنها الاستراتيجي الذي يهدد أمن وسيادة الدول.


خلال فترة الجائحة احتل دخول شركات التقنية العملاقة قوقل وآمازون وفيسبوك ومايكروسوفت مجال صناعة الرقائق الإلكترونية باستثمارات مليارية عناوين الصحف الاقتصادية العالمية، ربما للاستجابة للطلب الهائل عليها والنقص الشديد في توريدها وتحقبق أرباح هائلة من ورائها، وربما نتيجة تحولهم التدريجي نحو تصنيع العتاد بعد أن كان تركيزهم فقط على البرمجيات، احتذاءً بمنافستهم العتيدة آبل، وعدم الاكتفاء بالعالم الرخو للبرمجيات والمنصات الذي مهما زاد وهجه وانتفشت أرباحه، فهي لاتصل لصلابة عالم العتاد وعمقه واستدامته. كما عادت الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة بقوة إلى الاستثمار بمليارات الدولارات في تصنيع أشباه الموصلات وعدّت ذلك أمرًا استراتيجيًا لحماية أمنها الوطني وتعزيز سيادتها، بعد أن تراخت قليلاً عن حماية عرش ريادتها التقنية التي تمثل أشباه الموصلات جوهرة التاج فيه.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رأفت محمود زيني

تدوينات ذات صلة