تطل نافذتي على شجرة كبيرة، تعج صباحاً بأصوات العصافير التي تغادرها قبيل الفجر،

أفواج كبيرة من العصافير، تتملكني الحيرة ويراودني هذا السؤال كم عصفور قضى ليلته على هذه الشجرة؟


تغادر هذه الطيور الصغيرة الشجرة وتقضي يومها باحثة عن رزقها ورزق فراخها، لا يراودها شك في أنها قد لا تحصل عليه، لا تتكاسل أو تتقاعس أو تعتمد على غيرها، وفي آخر اليوم تعود الأفواج مرة أخرى للشجرة بعد يوم طويل، تعود لتغفو على الشجرة آمنة مطمئنة، لا تفكر بالغد ولا يؤرقها أو ينتابها القلق فرزقها مكتوب، وما عليها سوى السعي لنيله لذا تنام ملئ جفونها.

إن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع وفقير كل من يطمع وغنى كل من يقنع . على بن أبى طالب .


تطل نافذتي أيضاً على بيت جارتي(مريم) التي تخرج باكراً كذلك لكنها تخرج متثاقلة، أعرف ذلك من بطء خطواتها، وألمح سواداً حول عينيها يشي بأنها كانت مستيقظة طوال الليل.


أعرف (مريم) جيداً، هي كثيرة التفكير والقلق، يسكنها هاجس أن أحدهم سيحول دون حصولها على ما تريد، تحمل همومها وهموم أبنائها على كتفيها، لذا تراها وهي منحنية الكتفين مطأطأة الرأس دائماً، تشك في أن أبناءها قادرين على تحمل المسئولية فتقوم عنهم بكل شيء.

أسألها دائماً: متى ستمنحينهم فرصة لمساعدتك؟ متى ستتخلصين من قلقك الدائم؟

تقول: أنا أسيرة أبدية للقلق، فأبنائي مازالوا صغار لا يعرفون شيئاً وحتى الأكبر عمراً لن يتقن العمل كما أقوم به أنا.

سيظلون لا يعرفون يا مريم ما دمت لا تثقين بهم، وستظلين أسيرة للقلق ما دمت لا تحسنين الظن بالله.

أشرت لها مرة للشجرة، قلت لها أن الطيور تُعلم صغارها الطيران بأن تطير أمامهم، تفرد جناحيها وترفرف، ثم تقلدها الفراخ، وأحياناً تدفعهم من العش ليحاولوا الطيران، ومرة بعد مرة وبالممارسة يستطيعوا التحليق والطيران فالعصفورة الأم لن تعيش أبد الدهر لفراخها.

قالت: لكنني أخاف عليهم.

قلت لها: سيتلاشى الخوف من أول تجربة يخوضونها فإن نجحوا ستقل مسؤولياتك وسيرتاح بالك وإن فشلوا فسيكتسبون خبرة ومعرفة وسيتفادون الخطأ في المرات المقبلة.

قالت: لا أحب المخاطرة. نظرت لها نظرة إشفاق وتمتمت: ما أشقاك يا مريم وما أهنأ العصفور.


يا للأسف كم من مريم بيننا تفسد أبنائها بحجة الخوف عليهم، كم من أبناء فقدوا قدرتهم على التواصل مع الآخرين ومع العالم أجمع بسبب تفكير مريم وأمثالها، كم من الأبناء عاشوا بثقة مهزوزة ولسان حالهم يقول وجدنا آباءنا كذلك يفعلون.


هذا الخوف المبالغ فيه غير مبرر، ماذا سيحدث لو ساعد الأبناء بعضهم في الدراسة والواجبات المدرسية، أو مددن يد المساعدة في المطبخ، أو أنجز الكبير منهم مشواراً ضرورياً، هناك أمور كثيرة يستطيع الأبناء أنجازها على أكمل وجه فقط يحتاجون للإرشاد والتوجيه.


هناك مهارة من المهارات الإدارية تسمى تفويض المهام، أي إسناد بعض مهام المدير لشخص آخر مما يوفر الوقت ويساعد على الانجاز في الوقت المحدد، كما إنه يضيف خبرة للشخص المفوض إليه. فلماذا لا نتبع هذه المهارة الإدارية في منازلنا ومع أبناءنا؟!


إن من أهم طرق التربية منح الأبناء الثقة وتعويدهم على تحمل المسؤولية منذ الصغر واشراكهم في اتخاذ بعض القرارات.


الحياة ليست سهلة نعم، لذا يجب على الآباء اعداد ابنائهم لهذه الحياة، دعوا الحياة تلقنهم الدروس وهم في أحضانكم فأنتم لهم الناصح والمعين، علموهم ما ينفعهم ولا تتركوهم عرضه للصعاب بعد رحيلكم.

" إذا أرادت الأم أن تصلح إبنتها فلتصلح أولا نفسها" علي الطنطاوي



شعاع

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات شعاع

تدوينات ذات صلة