نُشرت في جريدة الرأي عام 2008، وجدتها بين أوراقي، فأعادت لي ذكريات شكلتني، شكراً د. عباس عبد الحليم...
كان الرصيف بارداً، تسلل ذلك الشعور إلى قدمي المتعبتين حين هبطت من قطاري في أول محطة عائداً من عملي، الريح من حولي تراقص أوراق جرائد ملقاة بعشوائية على الأرض، فركت يدي، ونفخت فيهما لأمنح نفسي بعض الدفء وأبعث الحرارة في أطراف أصابعي التي تجمدت أو كادت، وأنا أفكر في كوب من الشاي الساخن أشربه لعله يبعث بعض الدفء في أوصالي المرتجفة، غيّر مسار تفكيري صوت قادم من بعيد يسأل عن شئ ما...
نظرت باتجاه الصوت، فوجدت شخصاً غريباً يحمل بيده قصاصة ورق ويحاول إفهام المارة السائرين على رصيف المحطة شيئاً ما، بقيت أنظر إليه وقد انهزمت كتفاه تحت وطأة ثقل حقيبة سوداء، وتبعثر شعره الأسود بفعل هواء المحطة وتدلت ياقة قميصه يائسة من التعب، وقد لمعت نظرة اليأس والخوف في عينيه، يتلفت ذات اليمين وذات اليسار، يبحث في عيون الناس عن طوق النجاة...
فجأة تهللت أساريره، وبدا الفرح على وجنتيه وسار ناحيتي، وتساءلت "ترى هل أدرك أنني أشبهه..." وركض بسرعة باتجاهي وهو يردد كلاماً كثيراً ويشير بيديه ليلفت الانتباه، ابتسمت مرحباً ورفعت يدي لأتلقاه بسلام دافئ، فإذا به يتجاوزني ويسير مسرعاً خلفي، نظرت مستغرباً – وقد أحسست بالغصة تنتحب في حلقي لأنه لم يقصدني، أردت مساعدته – وجدته قد تعلق بذراع شرطي هناك، يرمي بثقل الحقيبة على الأرض ويعدل ملابسه، ويلتقط أنفاسه ويبدأ دورة جديدة من الشرح مستخدماً فيها كل ما يعرف من الكلام والإشارات، ويشير بيده المتعرقة إلى الورقة المتآكلة في محاولة جديدة ليطرق باب المستحيل...
شردت بنظري للحظات، وعدت بذاكرتي لسنوات قد خلت، كان مازال شعري يملأ رأسي بدلاً من هذه الصلعة التي تلمع تحت أضواء المحطة...
حين هبطت بقدمي لأول مرة في هذه المحطة، كنت أنوء تحت ثقل حقائبي وثقل همومي وخوفي، هل يمكن لي أن أبقى أنا ذاتي برغم اختلاف الزمان والمكان؟! هل سأستطيع تجاوز الصعاب والمحن التي ستمر بي، هل سأستطيع أن أحافظ على شخصيتي ومبادئي، وهل سأقدر على الحفاظ على رائحة التراب بين أصابع قدمي، أم أنني سوف أفقدها بمجرد أن يبتل حذائي بماء المطر...
حين رحلت عن وطني حاملاً آمالاً في صدري تعانق نبص قلبي وتغزل شبكة من خيوط الشمس لأتسلقها وطموحاتي، حملت في حقيبتي كل شئ، صورة أمي وأبي، جدران منزلي العتيقة، بحة صياح الديك، جيراني، أصحابي، زهرة الياسمين البيضاء، رحلت ودعوات أمي...
وقتها حين كان الشباب يضج فيّ كصخب أمواج البحر تضرب الصخور وتفتتها، نازعتني الأشياء داخلي.. ومازالت رائحة التراب بين أصابع قدميّ تزكم أنفي، هل أتخلى...؟! وبقى هذا السؤال يزاحم خلايا عقلي ويلح عليّ بين فترة وأخرى، وفي دوامة الحياة والعمل بدأ إحساسي به يخف شيئاً فشيئاً، لست أدري هل نسيته أم تناسيته، وفجاة كمن يستيقظ بعد سبات عميق، وجدت هذا السؤال يتراقص أمام عيني كبندول الساعة ويحثني لأرى واقعي كيف أصبح، وقفت أتطلع للمرآة لأجد أن الزمن قد نحت أسمه على وجهي وامتص ماء الحياة من عروقي وجعل مني ورقة خريف على وشك أن تتهاوى...
وجدت أن ثمة أحلاماً بدأت تتحقق، وكثيراً من الإصرار قد بدأ يخبو تحت غبار الحياة كبريق الماس، نفخت عنه الغبار وتفقدته، آه كم كنت خلال هذه السنين قوياً وصلباً، ومجابهاً، طارقاً لباب القدر بجرأة، لم تهتز مبادئي ولم تتغير، فقط تغير فيّ شئ واحد، صرت أخاف الليل.. منبع الذكريات، حلم الأمس، وماضي المستقبل، كنت أخاف أن أغمض عيني فتنتحب من حولي الأشياء، أخافها وهي تحترق لتحيا في ظلي، آه يا غربة، لقد أبكيت أقوى الرجال، وزرعتنا خوفاً...
أفقت من شرودي وأنا مازلت أنظر للغريب في محاولته اليائسة للعثور على العنوان الضائع وسط كومة الضوضاء من حوله، وقد جلس على الأرض وحيداً يتأمل حقائبه، ولعله كان يفكر، أي سيذهب، أين سينام، أو لعله كان جائعاً يفكر كيف سيحصل على بضع لقيمات يسد بها فم معدته الصارخ، أنكمش على نفسه أكثر ولفلف نفسه بمعطفه المرهق، ودفن رأسه بين كتفيه، ونفخ في يديه ليتدفأ ببقايا من لهاث ضعيف... دسست يديّ في جيبيّ، وأحنيت رأس الأصلع، ونظرت إليه بطرف عيني، وقد عرفت أنه الآن قد اكتشف أن الليل قد أصبح أبرد.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات