"استحضار" تحمل بين طياتها أنفسنا، وأرواحنا، وخيرنا، وشرنا، معتقداتنا، ومفاهيمنا، ورفضنا وقبولنا، إنها فعلاً "استحضار" لمعرفة ذواتنا...

"استحضار، العودة من داخل القبر"، ترى ماذا سنستحضر؟ وعندما نستحضر، ماذا سنرى؟ وهل سنرى؟ واذا رأينا؟ هل سنعرف؟ هل سنفهم؟ "استحضار" إنها أكثر من مجرد رواية مشوقة تعتمد على عامل الغموض، والرعب النفسي، إنها أكثر من ذلك بكثير، "استحضار" تحمل بين طياتها أنفسنا، وأرواحنا، وخيرنا، وشرنا، معتقداتنا، ومفاهيمنا، ورفضنا وقبولنا، إنها فعلاً "استحضار" لمعرفة ذواتنا...

بدأت الرواية بعبارة (لا تقرأ الصفحات التالية ما لم تكن على استعداد أن تتغير حياتك للأبد)... منذ البداية قدمت الرواية وعداً بالتغيير، تغيير مبني على تجارب حقيقية لبعض الأشخاص في استحضار الأرواح وطقوسها، هل سنفهم ما بين السطور، وما هي حقيقة الأرواح وماهية استحضارها، إنها فلسفة بُنيت على مشاعرنا وما تم زرعه في صدورنا فيما يتعلق بعالم الأرواح، وهو عالم مجهول، والبحث فيه، في مفهومنا، من الممكن أن يقدمنا لما بعد أحجار القبور...

فما استحضار الأرواح إلا لمعرفة ما وراء باب الموت وشواهد القبور، شيء من أمره أن يبعث فينا بعض اليقين والطمأنينة ويخفف وطأة الشعور بالحيرة والتوتر لما سنكتشفه حين نعبر باب الموت... ولكن من منا يعلم سر الروح، من منا قد أُذن له ليكتشف هذا السر، وحتى المأذونين لا يعلمون ماهية الروح كحقيقة كاملة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ - قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا – سورة الإسراء، آية 85)، ولا ينقلون السر الإلهي، فهو علينا محرمُ، الروح هي السر الأعلى، والسر المقدس، (يوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّاً – لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا – سورة النبأ، آية 38)، وكثيراً ما بقيت الروح متصلة بالجسد، وتشعر بكل ما هو مادي، رغم فناء الجسد، وانتقالها للحضور في البرزخ، لذلك تبقى الروح هي السر الأول والآخر...

ينقلنا "استحضار" لعالم أرحب وأوسع، من عالم المألوف إلى اللا مألوف، من الماديات إلى الروحانيات، لمنطقة أخرى لم نعتد عليها، فهناك دعوى للكف عن البحث عما فقدنا والبدء بالبحث عما نفتقد، فالفقدان هو للأشياء المادية والتي تختفي باختفاء الزمن، وما نفتقده له علاقة بأرواحنا، وسماتنا الشخصية، وما نحن حقاً بحاجة إليه، "استحضار" جلسة حوارية فلسفية مع الذات، وطرح الأسئلة عليها ومواجهتها بكل مخاوفها، وأهم ما تخافه الأنفس هو الموت، وما بعد الموت، وتشغلنا أحوال الموتى وكلامهم ورسائلهم، فهناك الكثير ممن لا نعلمه قد قضى حبيساً ما بين الأكفان وجدران المقابر، هناك من بات متألماً ومن بات سعيداً، ومن بات مهموماً، إنهم هناك، في البرزخ، منطقة الفصل ما بين الشك واليقين، ما بين الوهم والحقيقة، ما بين الحلم والواقع، إنها الأرواح، معلقة تنتظر أن ترتقي أو تهوي، ومن ثم ترتقي وتتسامى...

ونتعلم أن هناك موتٌ بالإرادة، الإلحاد، التشكيك بالوجود الإلهي، وسر الروح، والبرزخ، وما بعد البرزخ والفناء والبقاء بالفناء، فالروح تبقى حبيسة مكان أخطائها حتى يوم القيامة "استحضار" يخبرنا بأن الواقع عندما يكون أصعب من أن يصدق، أو أغرب من أن يُتخيل، تتحول أفكارنا، نبدأ بالبحث عن شيء دائم وحقيقي لتفسير الأحداث من حولنا، فلا يكون هناك إلا الإيمان، فيتحطم جبروت النفس والكبر وكبرياء العناد في مواجهة حقيقة الوجود الإلهي، لندخل في الرحمة الإلهية...

"استحضار"، هو استحضارٌ للنفس، من خلال الشخصية الرئيسية للرواية، وحوارها الضمني من طرف واحد مع شخص أصم وأبكم، ليتحدث عن نفسه بأريحية، هنا تثار جدلية نفسية فلسفية، هل نكون قادرين على اظهار أسوأ ما فينا، وكذلك أحسن ما فينا، بمشاعرنا، بأفكارنا، بخطايانا وأخطائنا، بدون أن نشعر بالخوف أو التردد، فقط لأن الطرف الآخر ليس له القدرة على السمع أو الكلام؟ هل نتحدث ونتجرد من دفاعاتنا ونطلق عنان ألسنتنا عما يصح وما لا يصح؟ نبوح بأسرارنا التي لا يعلمها أحد، وأكثر أفكارنا تطرفاً وجنوناً ونزقاً؟ نحن نعلم بأن الذي أمامنا هم موتى، فنبوح، وكم نحن نحب الموتى...

"استحضار" يحضر فلسفة الرسائل والإشارات، سواء من قبل الأشخاص أو الأشياء من حولنا، فالله يرسل رسائله بطرق مختلفة لتدل على وجوده بداية، فمنا من يعتنق ما لا يؤمن به ليجد أجوبة على أسئلته ليؤمن مرة أخرى بما لا يؤمن به، ومنا من ارتقى وتسامى ليخاطب الأرواح، فهل الأرواح مأذونة بأن تبوح؟ وإن باحت، هل تختار من ترسل له الرسائل؟ هل الروح تنقل الرسائل الإلهية؟ هل تنقل رسائل من أرواح أخرى؟ هل تطلب المساعدة؟ أو تقدم المساعدة؟ هل تعود الروح لتصفية الحسابات؟ هل الروح تنقل الحقيقة؟ وهل نحن نخاف الحقيقة، لذلك نخاف من الروح؟ وإذا الحقيقة لم تجلب السلام، هل نفضل البقاء في الباطل؟ هل ترضينا مجموعة الأفكار والتي أطلقنا عليها الحقائق؟ وهل نقبل بتغيير هذه الحقائق فتتغير أفكارنا وتتغير حياتنا؟ هل متى عرفنا طريق الله، وقد تعددت الطرق إلى الله بتعدد الخلائق، سنسلم، ونقبل، ونطيع، ونعبد، هل سنبصر، أم نفضل يسر الباطل ونعيش استعماء الروح؟...

"استحضار" يقول بأن هناك أرواح متلصصة، تنتظر في الما وراء حتى تفتح بوابة للمرور منها، وهذه الأروح تكون مؤذية، وتنقل رسائل مضللة، والسؤال هنا، هل هي فقط أرواح مؤذية؟ أم تعبير رمزي لما تحتويه النفس من شهوات ورغبات وخطايا تنتظر أن يفتح لها الباب لتصبح لعنات؟ إنها أنفسنا، تتلصص علينا، وتخبرنا بأننا الأسمى والأعلى، وكنا، ونكون، وسنكون، فالنفس قادرة على خلق أوهام تحبس العقل فيها، فنحن بحاجة لمواجهة أنفسنا وما نحمله من أفكار، هل نحن نفكر أم نتفكر، هل نؤدي أم نفعل، هل نواجه الإنكار بالإيمان أم الإيمان بالإنكار، ما نتيجة كشف المستور وما هو مُخبأ، وما هي عاقبته، هل تجنب كشف المستور أفضل من النبش في بقايا القبور؟ إنها رحلة من الإلحاد إلى الإيمان، من الجحود للتسليم، من الإنكار إلى اليقين، مواجهة مع الذات وإيمانها ومعتقداتها، وما هي إلا روح متصلة بجسد وتتسرب منه بمرور الزمن حتى تنفصل، وما يبقى بين الكاف والنون إلا "الله"...

"استحضار"، وبلغة جلسات تحضير الأرواح، يقول بأن الدعاء يحرر الأرواح، الدعاء هو المدد، مدد اللجوء إلى الله وطلب الصفح والمغفرة، الصلاة وقراءة القرآن تصنع هالة مغناطيسية حول الأماكن، وتمنع دخول الذبذبات الدنيا، ولا تصل إلى الجلسة إلا الذبذبات السامية، الصلاة والقرآن هما الحصن والحاجب والحماية... وتحضرني هنا جلسات الذكر، والشعور المميز لحضور للأرواح، وما تخبرنا به، وما تنقله إلينا، نحن لا نملك الأجساد ولا هي تملكنا، نحن الروح وما تحمله من معاني وذكريات ومعرفة، أجسادنا وهم، الأرواح حقيقة، وهي جزءٌ من مملكة الله، ومملكة الله لا تؤخذ غلاباً، هو يختار من يطلعه عليها، إنهم المختارون والأولياء وقد تعددت مقاماتهم...

وعندما تكون الحقيقة عكس ما نؤمن به، بندأ بالغضب لشعورنا بالعجز عن إدراك أن الحقيقة هي تماماً عكس ما نؤمن به، عجزنا عن السيطرة عليها أو تغييرها، هل نحن على استعداد لنطرق باب لا نجرؤ على طرقه، وعلى غرابته ومخاوفنا، هل ينقصنا اليقين، فالقلب يقول إمضي والعقل يقول أحجم، هل لنهرب من واقعنا أو من أنفسنا، أو من عقلنا الباطن، نقوم بخلق عالم من الوهم ونعيش فيه بكامل مكوناته، وعندما نعرف الحقيقة، الإيمان، تسقط الأقنعة؟ عندما نبحث عن الحقيقة نصبح جديرين بها، عندما يحصل القلب على الصفاء الكامل نستطيع الرؤيا، عندما نعرف الحقيقة يتغير كل شيء، دائماً كنت لوحدك، ستعبر طريق الحقيقة وحدك، سيختفي الأدلاء من حياتك بلحظة ما وتكمل الرحلة وحدك، تظهر الأرواح في الطريق لسبب، هي دلالات مختلفة، إما أشخاص، أو أحداث تدفعنا للتفكير باتجاه معين، بلحظة معينة، "موتوا قبل أن تموتوا" موتوا اختياراً قبل أن تموتوا اضطراراً، فمن مات عرف الحقيقة فعاش...

"استحضار" بين دفتيه الكثير من الفلسفة، والدين، والتاريخ، فهو غني بالتفاصيل عن طريقة استحضار الأرواح، والطقوس المتبعة في تحضيرها، وتفسير حضورها، وأهميته، فما بين سجلات حقيقية قُدمت من مركز دراسات لندن، وكتاب التعاليم المقدسة لأبراميلين المجوسي، ومعلومات علمية عن تركيبة الروح وماهيتها ومادة الأكتوبلازم وتأثيرها على الجسم حين تفرز، وذبذبات الجسم، والفرق ما بين الجسم الأثيري والروح، وصولاً إلى كتاب الخروج من الجسد (طقس البندول) وقد وفر "شوقي" معلومات كاملة عن طقس البندول وكيفية القيام به للخروج من الجسد النجمي أو الأثيري للتنقل بين عالم الأرواح، وكذلك التعاليم السرية لكل العصور للخروج من الجسد، وحقيقة الإسقاط الأثيري أو النجمي، والعلامات والرسومات ودلالاتها، الحضور الدائم للنجمة السداسية، والتعريف بطقس الكابالا، ونبوءات عام 2000 حول ظهر الدجال واجتماع الأخوية لحارسي الكابالا لإعداد العدة لخروجه، وفي مواجهته صاحب العمامة الزرقاء، والإشارة لكتاب سليمان الأصفر...

ومع توفر هذا الكم من المعلومات والتفاصيل، والتي اعتبر أن "شوقي" أوردها بدقة، يراودني سؤال، هل التفاصيل الواردة هي نتيجة بحث وقراءات كثيرة فيما يخص موضوع استحضار الأرواح ليتم إخراج "استحضار" بهذا الشكل، أم ان "شوقي" كان جزءاً من أحدى، أو ربما أكثر، من جلسات تحضير الأرواح؟!! وأياً من الحالتين، فقد قدم "شوقي" الكثير من المعلومات المهمة بهذا الخصوص، والتي من شأنها أن تدفع ببعض القارئين للبحث أكثر في هذا الموضوع، ومحاولة الحصول على الكتب والمراجع الوارد ذكرها في "استحضار"، أو ربما يتطرف البعض ويتجه لتجربة بعض أو كل الطقوس الوارد ذكرها، فضولاً ومعرفةً...

قدم "شوقي" كتاب "استحضار"، وأفضل أن أقول كتاب وليس رواية، لأنه بالنسبة لي أكثر بكثير من مجرد رواية مرعبة، بطريقة واجه فيها العلم والمنطق بالماوارئيات وأسرار الروح، فجمع بين المنطق، والتشويق، وعزز فضول القراء، وكان نص "استحضار" يقدم وصفاً لغوياً شاملاً للأحداث والطقوس مما يقوي منطقة الخيال ليخلق العقل واقعاً لـ"استحضار" للعيش فيه ولو مؤقتاً ما بين حوارات مباشرة بين الشخوص، وقراءة تفاصيل، والحديث مع النفس، ليشكل نهاية غير متوقعة...

ونهايةً، الأرواح لا تستحضر، بل تبقى عند ربها في البرزخ إلى يوم القيامة، وما "استحضار" إلا عودة للإيمان وعدم محاولة كشف المستور غير المعلن، والثقة بالله والتسليم، والخروج من سطوة شهوة معرفة ما وراء الموت باستحضار الأرواح، إنها قصة مواجهة شر النفس لنعيد تشكيل الوعي وتحقيق المعرفة والإدراك، فبدون شرور النفس، لا نضوج ولا حكمة، لا ترقي للروح، ولا يظهر فرق بين الإنسان والشيطان، فبدون النار لا يصفو الذهب...



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات تجربتي... ريم القدح

تدوينات ذات صلة