عندما يقتحمنا الغرباء في لحظة من الزمن ولا ندري بأنهم سيصبحون أقرب من أنفسنا إلينا...


في كل صباح أجلس في المقهى الصغير المواجه لعملي وأتناول فنجاني من الشوكولا الساخنة الممزوجة بطعم الفلفل الحار كدمي الشرقي واتحصن بالدفء المستلل لأصابعي لأواجه المدينة والضباب...


لقد تعودت هذه المدينة وضبابها، تعودت ضجيجها، تعودت صوت الناس وهم يتحدثون ويضحكون ويبكون، أراقبهم من خلال بخار الشوكولا وعيناي تتراقص مبتسمة لهم، يبادلني بعضهم إبتسامة العيون وبعضهم ابتسامة الشفاه وإيماءة صغيرة... تعودت رؤية اللحية البيضاء التي تزين ذقن صاحب المقهى والتي تبدو كفرشاة ألون قد غمست في دهان أبيض وسال عن بعض شعيراتها لتبدو الخطوط الرفيعة السوداء ممزقة والتي تشكو جفاف جسدها النحيل...


صباحاً، وأنا أعايش عاداتي وأتناول الشوكولا وأقرأ صحيفة الصباح، رأيت من بين البخار المتصاعد عينين تراقبانني من خلف الضباب، أنزلت الفنجان وحدقت بهما فإذا بي أحدق بالفراغ... هززت كتفيّ ودفنت نفسي في كوب الشوكولا الدافئ وتابعت قراءة الجريدة... شعرت مرة أخرى بالوخزة في ظهري تحرق جلدي، وتستفز أعصابي، فتشت بعيني عنها فلم أجد شيئاً وقد لاحت لعيني ساعة الحائط تعلمني بموعد بدأ العمل... فلملمت أشيائي وطويت الصحيفة تحت إبطي وابتلعت آخر رشفة لي في فنجان الشوكولا ورحلت...


عدت لمنزلي الصغير، الغرفة الوحيدة التي أملكها في ضباب المدينة، مطبخي الصغير، وحمامي الأصغر، يختلط الأثاث وطابعه الضبابي برائحة القرفة والزعتر الشرقية التي ملآت مطبخي بهما، على الجدران يتعانق الصليب والهلال ليغمرا الغرفة بجو روحي غريب قد تجذر فيّ...


تناولت عشائي بطريقة آلية على صوت المطرب المنبعث من جهاز التلفزيون، وقد تذكرت الوخزة التي لسعتني في الصباح من خلف الضباب وشعرتها من خلف بخار الشوكولا "هل أنا أتخيل، كلا لست بأتخيل، فعقولنا تعمل كجهاز منبه يرشدنا متى حدق الناس بنا، ربما كان أحد المارة الذين يسترقون النظر من خلف زجاج المقاهي بفضول، لماذا أشغل بالي"... وانتهى عشائي وأطفأت جهاز التلفزيون وفتحت النافذة وأطفأت الأنوار وخلدت للنوم استمع لصوت المطر المنهمر ينقر أرض الشارع بأطرافه ويبلل غشاء ستارتي...


وانقضى الليل والسماء تغسل بدموعها هموم النهار وترسم ستارة من الماء المتراقص على زجاج النافذة المتعبة، وحل نهار أبيض بسماء زرقاء مبتسمة لا أثر فيها لدموع المساء... واجهتني الوخزة فور دخولي وحصولي على الشوكولا الساخنة، راقبت كل الأشياء من حولي لعلي أجد سبباً لهذه الوخزة فلم أجد شيئاً غريباً علي، هذا حوض الأسماك الذهبية، وهذه شجرة الياسمين ممدة على خشب النوافذ الأزرق المرهق، نفس المصابيح القديمة المتدلية من السقف تتراقص مع نسمات الهواء، الوجوه والعيون والشفاه كلها عرفتها... هززت كتفي وانغمست في التلذذ بفنجان الشوكولا وعبيره، لكن الوخزة لم تتركني، شعرت بها بقوة أكثر... لم أبحث هذه المرة في الوجوه والأشياء، وإنما قلت لنفسي "يبدو أن ضباب المدينة قد أحاط بعقلي فصرت أتخيل"... أنهيت فنجاني ملبية نداء العمل، ولست أنكر أن الوخزة قد أحتلت مساحة من تفكيري وأنا أتساءل ما هي وإذا كانت موجودة أم لا... وخلال النهار وتحت ظروف العمل الجبرية نسيتها وانغمست مرة أخرى في ضباب المدينة واغتسلت به من رأسي حتى أطراف أصابعي...


صباح اليوم التالي عشت عادتي على الطاولة الصغيرة المغطاة بالأحمر تزينها وردة بيضاء، ودون أن أطلب جائتني الشوكولا الساخنة والجريدة، وضعت في رائحة الفلفل الممزوجة بالكاوكاو وأختبأت خلف الصحيفة... شعرت بأن هناك دبوس قاسٍ يخز ظهري، ألتفت بسرعة فرأيت عينين مسمرتين عليّ تحدقان بي بإستفزاز... دارت العينان المحدقتان حول المقهى ودخلتا الباب ووصلتا إلى البار، وسمعت صوتاً عميقاً يقول "كوب شوكولا ساخنة بالفلفل الحار لو سمحت"... دفنت عيناي في جريدتي مرة أخرى وجرعت من فنجاني بقوة حتى شعرت بالنار تنبعث من أذني، أزدرت ما جرعت ببطء لكي لا أصرخ من سخونة السائل تلسع لساني وشفتي وأخذت نفساً عميقاً وبدأت أسترق النظر من خلف الجريدة... فإذا بالعينين أمامي مباشرة مبتسمتين وصوت الملعقة تتحرك في الشوكولا وتطرق الفنجان بنعومة...


أنزلت الجريدة، استجمعت قوتي، حدقت بالعينين باستغراب... "صباح الخير، لقد جلست بدون إذن لأنني لم أشأ إزعاجك وأنت تقرأين..." لم أرد!! حملت حقيبتي وارتديت معطفي ورحلت... مساءاً، تساءلت "من هذا، لماذا اقتحمني هكذا، لم يهتم لأسواري، وحتى لم يطرق بابي، لقد اقترب كثيراً بل أكثر من اللازم، ماذا يريد؟!!"...


استمر هذا الوضع الصعب عدة أيام، كل يوم أتناول الشوكولا تحت وصاية عينيه، لم يتكلم معي مطلقاً، ولم أسأله مطلقاً، وأنا أتذمر بيني وبيني بأنني لا أشعر بحريتي، وكيف سأستمر بعادتي اليومية تحت وطأة هذا الاقتحام، وكيف، وكيف... وقد ركبت رأسي بعناد بأنني لن أتخلى عن ما أفعله من أجل عينيه والهروب من منهما...


وفي صباح أحد الأيام دخلت المقهى وقد أحسست بأن هناك شيئاً غريباً، فوقفت مسمرة على الباب أجيل بنظراتي المكان وقد أدركت أن عينيه لم تكن بإنتظاري اليوم... ابتسمت وقلت في نفسي لقد عادت الراحة أخيراً وتخلصت من وصاية عينيه... ولمفاجأتي... فإن نفسي فاجأتني بعدم الراحة، فقد تعودت على عينيه وعلى سوادهما يطل من خلف البخار، وظللت أنتظر أكثر من يوم أن آراهما حتى توارت الوخزة من إحساسي ببطء واختبأت في عباءة الحياة اليومية...


كنت أسير محاولة تجاهل السؤال الذي يرن في اذني، ما سبب هذا الاقتحام المفاجئ والغياب المفاجئ أكثر منه... كنت أهم بقطع الطريق قبل أن يخذلني اللون الأخضر ويغيب... شعرت بنفس الدبوس القديم يخز ظهري... ألتفت بقوة فاصطدمت عيناي بسواد عينيه، وقبضة قوية تمسك بذراعي وتقودني عبر الشارع حتى لا تصدمني السيارات التي بدأت تتحرك وتطلق أبواقها لتوقظني من سباتي اللذيذ في عينيه... استسلمت لقوة اليد الممسكة بذراعي وهي تقودني لنفس المقهى القديم... حضرت الشوكولا الساخنة يتصاعد منها البخار يغريني بالنظر إلى عينيه تتراقص في سوادهما نفس الابتسامة الصامتة... طوال الغياب، لم تغادرني عينيه المقتحمتين بل كانتا تنتظران فرصة للعودة والسيطرة على مساحة الصمت بيننا... وفكرت بيني وبيني لقد ازداد عدد معارفي في هذه المدينة الغريبة فأصبحوا ثلاثة... الضباب والشوكولا وسواد عينيه...

إقرأ المزيد من تدوينات تجربتي... ريم القدح

تدوينات ذات صلة