"هَجَرَت وَطَيفُ خَيالِها لَم يَهجُرِ"

— البحتري.


متكئ على المركى يشرب شاهي، تفوح رائحة الدخان مع الفصفص، أمامه أصدقائه يلعبون بلوت بكل تبطل وفراغ وعدم اكتراث للوقت ولا أي شيء. لأنها هي ضمن روتين متكرر مليء بالرتابة، من الصباح إلى العصر كل واحد في عمله، بينهم عسكري متذمر دومًا على ضابطه، وموظف قطاع خاص يحسد كل موظفيّ الحكومة، ويعمل إثنان في شركة عائلتهم، توفّر السجاد والموكيت والبطانيات، قديمة ومكانها معروف في السوق، وأحمد يعمل في شركة مقاولات. بعد انتشار الظلام واستقرار القمر يبدأون بالمجيء للاستراحة، يمتزجان سريعا، هناك شيء داوخلهم جميعًا، يجعلهم على خطٍ واحد مليء بالمحبَّة والمودَّة، المعزَّة والتقدير، لا يكن ظاهرًا بالكلام، في الفعل وحسب، لأنك ترى بينهم شتائم بسبب لعبة أو زيادة/نقصان بمقدار السكر في الشاهي ولكن عند الأزمة والسقوط، والانهيار والاحتياج، يكونا يدًا واحدة عونا وفزعة.

أحمد يشرب الشاهي بكل لذَّة ومتعة، وكلما شارف كوبه بالانتهاء يزيده من الزمزميّة التي بجانبه، لا تفارقه أينما حل وارتحل، الجسم يحتاج إلى الماء بشكلٍ يوميّ والمزاج يحتاج كوب شاهي لكي تفكّر وتعمل بطريقة أفضل، كما يقول.

ينفث آخر دخان سيجارته في الهواء من ثم يضعها في الطفاية، وهو قد أراح ظهره على الكنب، ويوزع نظره على أصدقائه والجدار والسقف ويحدق في الفراغ. أيام من الصمت والتأمل والرجاء والإلحاح والتوسل أحدثت كوّة صغيرة في جدار الزمن، نفذ منها، وسافر مع امرأة بقوام قصيدة، توارت خلف الباب، تميل رأسها وينساب الليل معها، شلال ضوء أسود انهمر نحوه وغرق أكثر وأكثر، تاه في عيون كانت هي النجاة، ومبسمٍ ضحوك ضحكت الحياة معه، رياح الحنين لامست شعرها بعد السكون لتخط لوحة فنية لا يمكن ليوناردو دافنشي على رسمها ولا قصائد أبو نوَّاس على وصفها، تلاشت المسافة بينهما، تمازجا معًا مثل اثم لازب، صوت من بعيد يودِّعه لم يعير له اهتمام، غرقَ في رغباتِ ليل ولمسَ القصيدة بيتَ بيتَ، يعود إلى مكانه من اتصال أحد أصدقائه قائلًا: يا فاهي ترى طلعنا خلاص ماراح نرجع. قام مرهق أخذ جواله والبكت والمفتاح وخرج.



الأثنين.

17/4/2023


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مُعاذ خالد.

تدوينات ذات صلة