كنت أحتسي قهوتي الصباحية في أحد مقاهي القاهرة المرموقة يوم الثلاثاء الماضي، كنا في الثامنة صباحًا والوقت مناسب تمامًا للاسترخاء،

فبدأت أفكر في حياتي الفائتة والمقبلة وخططي المستقبلية حتى بلغت من الشرود أقصاه. لكن أخرجني من شرودي صوت أجش تملأه الجرأة لفتاة بالنظر إليها، اتضح أنها تلقي كلماتها على شاب، يبدو أن هناك علاقة حب تجمع بينهما، وفجأة ارتفع صوتها أكثر فأكثر، وهمت واقفة قبل أن تقول: "أنت حيوان، أنا كنت عارفة من الأول إنك حيوان، عشان كلكم مصطفى أبو حجر"، قالت جملتها وانصرفت بسرعة البرق، ورغم ما تبدو عليه الكلمات من سخرية، إلا أنها كانت في أشد لحظات الجدية وأقصى مراحل الوجع، وتبين لي ذلك من رعشة يديها، وعينيها اللتين كادتا تفضحها واغرورقتا بالدموع.


المهم أنها انصرفت وتركت الشاب موضع أنظار المقهى بأكمله، البعض ينظر له بشفقة لما تسببت فيه الفتاة له من إحراج، والبعض يتساءل: ماذا فعل هذا الشاب ليستحق وصلة الردح تلك؟ والبعض الآخر نظراته مليئة برغبة الانتقام لتلك الفتاة من ذاك الوغد، أما أنا أردت أن أقف في منتصف المقهى وأصفق بحرقة لتلك الفتاة، ربما لشجاعتها، أو لصدقها مع ذاتها، ربما أيضًا تعاطفًا معها، المهم أن رغبة التصفيق الحاد سيطرت عليّ، حتى إنني انصرفت بسرعة قبل أن أفعلها، وفي الطريق إلى منزلي بتّ أفكر في كلمات الفتاة ومكنونها، وبت أتساءل هل حقاً كلهم مصطفى أبو حجر؟

هل حقاً كلهم خائنون، عيونهم فارغة لا يملأها سوى حصى ورمال؟ هل جميعهم شيمتهم القسوة والعناد والافتراء؟ هل هم مستنسخون بالفعل من مصطفى أبو حجر مع اختلاف الأعمار والصفات الشكلية؟ أم أننا كفتيات نبالغ قليلاً؟!


ولمن لا يعرف مصطفى أبو حجر فهو رجل مصري دارت حوله أحداث فيلم حب البنات؛ إذ تزوج عدة مرات وأنجب ثلاث فتيات ثم توفّاه الله، ولكن والدة إحداهن كانت دومًا تحذر ابنتها من الرجال، مبرهنة على ذلك بأنهم كلهم خائنون تماماً مثل أبيها، جدير بالذكر ومثير للعجب أن مصطفى أبو حجر لم يظهر مطلقًا خلال الفيلم، لم نشاهده ولم نرَ منه أية إساءة، ولم نستمع حتى إلى روايته التي لربما كانت مختلفة تمامًا عن رواية الأم، ولربما لو استمعنا إليها لصارت لدينا صفية أبو حجر بدلًا من مصطفى أبو حجر مثلًا


لكننا فقط صدقنا رواية فتيات الفيلم، فآمنا بها وصِرنا نطلق لقب مصطفى أبو حجر على أي رجل مصري، ومؤخرًا أصبحنا نطلقها على رجال العالم أجمعين، ورغم أن الأم في النهاية تزوجت من شخص آخر، وأخبرت ابنتها أنه مختلف عن والدها "مصطفى أبو حجر" جملةً وتفصيلاً، إلا أننا لم نكترث لهذا أبداً، بل فقط لم تسعنا الفرحة بتلك الشماعة التي أعطانا الفيلم إياها في طبق من ذهب على هيئة إفّيه مضحك نتداوله ليلاً ونهاراً على مواقع التواصل الاجتماعي، ونبرر به فشل علاقاتنا العاطفية والاجتماعية.


أنا لا أكتب إنصافاً للرجال، ولا أنوي قصف جبهة الفتيات، لا أضع تحليلاً سينمائياً للفيلم، ولا يهمني أن تتوقف وصلات السخرية وشماعات الفشل، بل إنني فقط سئمت التبريرات الفارغة ودور الملائكة الذي يعيش البعض في ثوبه، فطوال عشرين عامًا من عمري لم أستمع من إحدى الفتيات أن علاقتها مع مَن تحب انتهت؛ لأنها خائنة أو تحب شخصاً آخر، لا أتذكر أن إحداهن قالت إن كل شيء انتهى بسبب أفعالها الطفولية، وشكوكها الزائدة، عنادها أو حتى أنانيتها بل في كل مرة يأتي الجواب بأن كل شيء انتهى؛ لأن كلهم مصطفى أبو حجر وتتفنن الفتيات في المسكنة حتى إنني أبداً في التساؤل هل حقاً يعقل أنها كانت الملاك البريء وكان هو الشيطان الدنيء؟!


وإحقاقاً للحق فالرجال أيضاً ليسوا ملائكة، فلا أحد يعلن صراحة أنه خائن، ولا آخر يجزم أن واحدة لا تكفيه، أشعر أن كل طرف يلقي أخطاءه على عاتق الآخر، وكأنها حرب نفسية لن يكتب لها أبداً أن تنتهي، كلٌّ يرى الآخر مخطئاً، ويعش العمر بأكمله في دور المجني عليه، ولا يضع في اعتباره أبدًا أنه قد يكن الجاني، كل يرى الأمور من زاويته الخاصة ويرفض الاستماع لأية زوايا أخرى، وما يكاد يحين وقت انتهاء علاقة الحب التي استمرت أيامًا وليالي ولربما سنوات، حتى تجد كل طرف يسب ويلعن في الآخر، ولا أعلم أين تذهب "كل شيء قسمة ونصيب" عن عقولهم.

فكأن كل ما كان بينهما من مودة وحب تبخر في ثلاث ثوانٍ وحلت مكانه كراهية وعدوانية غريبة.


في الواقع ترعرعت في مجتمع مصري أصيل تباينت معتقداته بين: جلب خلفة الفتيات للعار، واكسر للبنت ضلع يطلع لها 24، والرجال قوامون على النساء، وغيرها من معتقدات كنت لا أجد فيها سوى تزيّد على الفتيات بدون داعٍ، فكبرت أبحث عن المساواة التي حرمني المجتمع منها بمعتقداته السخيفة.


كانت أمي دوماً تحذرني من مصادقة الصبية، وتزرع في عقلي أنهم مكرة أشرار مخادعون، فترسخت داخلي فكرة مصطفى أبو حجر دون قصد ودون دراية بالفيلم أصلاً، لكنها أبداً لم تخبرني أن الفتيات أيضاً فيهن الخداع والخبث، لم تخبرني أن منهن الخائنات، ولم تحادثني بشأن طعناتهم القاتلة، لكن حين مرت بي السنوات، وبلغت العقد الثاني من عمري، وجدت في بعض الأوقات لدغات الفتيات أشد وطأة من لدغات الرجال.


فخلاصة القول: لسنا شياطين ولن نصبح أبداً ملائكة، كلنا خطاؤون، وكلنا مصطفى أبو حجر في رواية أحدهم، إناثاً كنا أو ذكوراً.

Menna El-hosary

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Menna El-hosary

تدوينات ذات صلة